للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدليل الرابع الإجماع على قبول أحاديث التابعين الثقات السالمين من وَصْمة التدليس، إذا رووا بالعنعنة عمن عاصروه من الصحابة، وإن لم يُعلم لقاؤهم لهم، وسماعهم منهم، كما أن ذلك مقبول في الصحابة على ما سبق بيانه، فناقشه ابن رُشيد رَحِمَهُ اللهُ بثلاثة أمور:

(أحدها): نقض الإجماع المدّعَى؛ إذ الخلاف في ذلك قائم. (وثانيها): أن الأمثلة التي ذكرها غير صحيحة؛ لما ثبت من هؤلاء الذين مثّل بهم ممن ثبت سماع بعضهم من بعض. (وثالثها): أن هذه أمثلة خاصّة جزئيّة، ولا يمكن بناء الحكم الكليّ بحكم الجزئيّات؛ إذ لا يطّرد؛ لاحتمال أن يكون لكل حديث حكم يخصّه بسبب قرائن انضمّت إليه مما يفيد اللقاء والسماع، فيصحّح ذلك الحديث اعتمادًا عليها، لا على مجرّد المعاصرة، وهذا كثير في استعمال المحدّثين، حتى إن المصنّف نفسه وقع له نظير ذلك، فقد أدخل في "الصحيح" أحاديث أسباط بن نصر، وقَطَن بن نسير، وأحمد بن عيسى، مع أنه لا يَعتمد عليهم، فلما اعتَرَض عليه ذلك أبو زرعة الرازيّ، اعتذر إليه بأنه إنما أدخل من أحاديثهم ما ثبت لديه صحّته مما رواه الثقات عن شيوخهم، لا لاعتماده عليهم، ثم بيّن سبب عدوله إليهم حيث قال: إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.

والحاصل أن قبول الأئمة لعنعنة المعاصرين من التابعين ليس لمجرد المعاصرة، بل لما انضمّ إلى ذلك من القرائن التي تفيد صحة اللقاء والسماع، فلا يتمّ الاحتجاج على الخصم بالاحتمال الضعيف مع وجود الاحتمال القويّ.

ثم ناقشه فيما ادّعاه من عدم ثبوت سماع كلّ من قيس بن أبي حازم، والنعمان بن أبي عيّاش من أبي مسعود -رضي الله عنه-، فقد ثبت سماع قيس منه عند البخاريّ في موضعين من "صحيحه"، وقد ثبت سماع النعمان عند البخاريّ، وعنده أيضًا في آخر الكتاب، إلا أنه نسيه في أوله، وقد اعتذر له عن هذا بأنه إنما وقع عنده ضمنًا، لا مصدّرا به.

وناقشه أيضًا في قوله: "وأسند النعمان بن أبي عيّاش، عن أبي سعيد الخدريّ ثلاثة أحاديث"، إذ أخرج له هو في "صحيحه"، ستة أحاديث، فكيف نسي هذا؟ .

ورحم الله تعالى الإمام ابن رُشيد حيث أجاد في هذه المناقشة الهادئة التي يظهر عليها سمة الاحترام والاعتذار للمصنّف رَحِمَهُ اللهُ تعالى، ولنعم ما فعل، فإن هذه صفة العلماء المخلصين المبتغين وجه الله تعالى بعلمهم.

فتلخّص مما سبق أن أحاديث المتعاصرين إذا وردت معنعنةً، ليس فيها تصريح

<<  <  ج: ص:  >  >>