للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنتم قائلون قالوا: نشهد أنك بلّغت، وأدّيت، ونصحت" (١)، ومعلوم أن هذا البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلَّغ، ويَحصُل به العلم، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد، فإن الحجة إنما تقوم بما يَحصُل به العلم، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُرسل الواحد من أصحابه يُبلّغ عنه، فتقوم الحجة على من بلّغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بَلَّغَنا العدول الثقات من أقواله، وأفعاله، وسنّته، ولو لم يُفد العلم لم تقُم علينا بذلك حجة، ولا على من بَلَّغَه واحدٌ، أو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة، أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل، فيلزم من قال: إن أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تفيد العلم أحد أمرين: إما أن يقول: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يبلّغ غير القرآن، وما رواه عنه عدد التواتر، وما سوى ذلك لم تقم به حجة، ولا تبليغٌ، وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علما، ولا يقتضي علمًا، وإذا بطل هذا الأمران، بطل القول بأن أخباره -صلى الله عليه وسلم- التي رواها الثقات العدول الحفاظ، وتلقّتها الأمة بالقبول، لا تفيد علمًا، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.

(الدليل الثامن): قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وقوله: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}. ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن جعل هذه الأمة عُدُولًا خيارًا ليشهدوا على الناس بأن رسلهم قد بلّغوهم عن الله رسالته، وأَدُّوا عليهم ذلك، وهذا يتناول شهادتهم على الأمم الماضية، وشهادتهم على أهل عصرهم، ومن بعدهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بكذا، ونهاهم عن كذا، فهم حجة الله على من خالف رسول الله، وزعم أنه لم يأتهم من الله ما تقوم به عليه الحجة، وتشهد هذه الأمة الوسط عليه بأن حجة الله بالرسل قامت عليه، ويشهد كلّ واحد بانفراده بما وصل إليه من العلم الذي كان به من أهل الشهادة، فلو كانت أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تفيد لم يشهد به الشاهد، ولم تقم به الحجة على المشهود عليه.

(الدليل التاسع): قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ}، وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفّاظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إما أن تكون حقّا، أو باطلًا، أو مشكوكًا فيها، لا يُدرى، هل هي حقّ، أو باطل، فإن كانت باطلًا، أو مشكوكًا فيها وجب اطّراحها، وأن لا يُلتفت إليها، وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلّيّة، وإن كانت حقّا، فيجب الشهادة بها على البتّ أنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان الشاهد بذلك شاهدًا بالحقّ، وهو يَعلم صحّة المشهود به.


(١) أخرجه مسلم في "صحيحه".

<<  <  ج: ص:  >  >>