للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الدليل الثالث): أن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صحّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك جزم منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخّرين أن المراد بالصّحَّة صحّة السند لا صحّة المتن، بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحّة الإضافة إليه، وأنه قاله كما كانوا يَجزمون بقولهم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمر، ونهى، وفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحيث كان يقع لهم في ذلك يقولون يُذْكَرُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويُروَى عنه، ونحو ذلك، ومن له خبرة بالحديث يفرّق بين قول أحدهم هذا الحديث صحيح، وبين قوله: إسناده صحيح، فالأول جزم بصحّة نسبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والثاني شهادة بصحّة سنده، وقد يكون فيه علّة، أو شذوذ، فيكون سنده صحيحًا، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه.

(الدليل الرابع): قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ١٣٢]. والطائفة تقع على الواحد، فما فوقه، فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم، والإنذار: الإعلام بما يفيد العلم، وقوله: لعلهم يحذرون نظير قوله في آياته المتلوّة والمشهودة {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: ٢١]، {لَعَلَّهُمْ يَهْتدُونَ}، وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل العلم، لا فيما لا يفيد العلم.

(الدليل الخامس): قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتبعه، ولا تعمل به، ولم يزال المسلمون من عهد الصحابة يَقْفُون أخبار الآحاد، ويعملون بها، ويثبتون لله تعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علمًا لكان الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، وأئمّة الإسلام كلّهم قد قَفَوا ما ليس لهم به علم.

(الدليل السادس): قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر، وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم، لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علمًا، وهو سبحانه لم يقبل: سلوا عدد التواتر، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقًا، فلو كان واحدًا لكان سؤاله وجوابه كافيًا.

(الدليل السابع): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، وقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "بلّغوا عنّي"، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: "أنتم مسوولون عنّي (١)، فما


(١) أخرجه البخاري في "صحيحه" بلفظ: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ... " الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>