للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحجرات: ٦]. ثم المراد من العلم هنا بخبر الآحاد العلم بالمعنى الأخصّ، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الذي لا يبقى معه شكّ، ولا شبهة. انتهى كلام الصنعانيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى (١).

واختار أبو محمد بن حزم رَحِمَهُ اللهُ تعالى كونه يفيد العلم، حيث قال في كتابه "إحكام الأحكام": إن خبر الواحد العدل، عن مثله، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوجب العلم والعمل معًا، ثم أطال في الاحتجاج له، والردّ على مخالفيه في بحث نفيس لا تجده في غيره من الكتب، فراجعه ١/ ١١٥ - ١٣٢.

وكذا اختار هذا القول ابن القيّم في كتابه "الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة"، وحقّقه تحقيقًا بديعًا، وذكر له من الأدلّة أحدًا وعشرين دليلًا أذكرها هنا تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، فأقول:

(الدليل الأول): أن المسلمين لَمّا أخبرهم الواحد، وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حُوّلت إلى الكعبة، قبلوا خبره، وتركوا الحجّة التي كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم يُنكر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل شُكِروا على ذلك، وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يَتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يُفيد العلم، وغاية ما يقال فيه: إنه خبر اقترنت به قرينة، وكثير منهم يقول: لا يفيد العلم بقرينة، ولا غيرها، وهذا في غاية المكابرة، ومعلوم أن قرينة تلقّي الأمة بالقبول له، وروايته قرنًا بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن، وأظهرها، فأيّ قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها.

(الدليل الثاني): أن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية [الحجرات: ٦]، وفي القراءة الأخرى: {فَتَبَيَّنُوا}، وهذا يدلّ على الجزم بقبول خبر الواحد؛ لأنه لا يحتاج إلى التثبّت حتى يحصل العلم. ومما يدلّ عليه أيضًا أن السلف الصالح، وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، وفعل كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة. وفي "صحيح البخاريّ": قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عدّة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما سمعه من صحابيّ غيره، وهذا شهادة من القائل، وجَزْمٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما نُسِبَ إليه من قول، أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغير علم.


(١) "توضيح الأفكار" ١/ ٢٦ - ٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>