للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما بلغه لم يفد علمًا لما كان متعرّضًا بمخالفة ما لا يفيد علمًا للفتنة، والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر.

(الدليل الرابع عشر): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إلى قوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، ووجه الاستدلال أنه أمر أن يُرَدَّ ما تنازع فيه المسلمون إلى الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والردُّ إلى الله هو الرّدّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله هو الردّ إليه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم، وفصل النزاع لم يكن في الردّ إليه فائدة، إذ كيف يُردّ حكم المتنازع فيه إلى ما لا يُفيد علمًا البتّة، ولا يُدرَى حقّ هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع -بحمد الله تعالى- فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تُفيد علمًا: إنا نرُدّ ما تنازعنا فيه إلى العقول، والآراء، والأقيسة، فإنها تفيد العلم.

(الدليل الخامس عشر): قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. ووجه الاستدلال أن كلّ ما حَكَمَ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو مما أنزل الله، وهو ذكر من الله تعالى، أنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد تكفّل الله سبحانه بحفظه، فلو جاز على حكمه الكذب، والغلط، والسهو من الرواة، ولم يَقُم دليلٌ على غلطه، وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله، وكفالته لحفظه، وهذا من أعظم الباطل، ونحن لا ندّعي عصمة الرواة، بل نقول: إن الراوي إذا كذب، أو غلِط، أو سها، فلا بدّ أن يقوم دليلٌ على ذلك، ولا بدّ أن يكون في الأمّة من يَعرِف كذبه، وغلطه؛ ليتمّ حفظه لحججه، وأدلّته، ولا يلتبس بما ليس منها، فإنه من حكم الجاهليّة، بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كلّ هذه الأخبار، والأحكام المنقولة إلينا آحادًا كذبًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}.

(الدليل السادس عشر): ما احتجّ به الشافعيّ نفسه، فقال: أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأدّاها، فربّ حامل فقه، غير فقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يُغلّ عليهنّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" (١)، قال الشافعيّ: فلما ندب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى استماع مقالته وحفظها،


(١) حديث صحيح أخرجه في "مسنده" وابن ماجه، والحاكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>