للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يُبصر الحديث، ولا يعقله، ولو كان أفضل من فتح (١) الموصليّ. وحكى الترمذيّ في "علله" عن البخاريّ قال: كلُّ من لا يَعرِف صحيح حديثه من سقيمه لا أُحدّث عنه، وسَمَّى منه زَمْعَة بن صالح، وأيوب بن عُتبة. وحكَى الحاكم هذا المذهب عن مالك، وأبي حنيفة. وحكى عن أكثر أهل الحديث الاحتجاج بحديث من لا يَعرِف ما يُحدّث به، ولا يَحفظه. والظاهر -والله أعلم- حمل كلام الشافعيّ على من لا يحفظ لفظ الحديث، وإنما يُحدّث بالمعنى كما صرّح بذلك فيما بعدُ، وكذلك نقل الربيع عنه في موضع آخر أنه قال: تكون اللفظة تترك من الحديث، فتُحيل المعنى، أو ينطق بها بغير لفظ المحدّث، والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث، فيَخْتَلّ معناه، فإذا كان الذي يَحمل الحديث يَجهل هذا المعنى، وكان غير عاقل للحديث، فلم يُقبل حديثه، إذا كان يَحمل ما لا يَعقِل، إذا كان ممن لا يؤدّي الحديث بحروفه، وكان يلتمس روايته على معانيه، وهو لا يعمل المعنى، إلى أن قال: فالظنّة فيمن لا يؤدّي الحديث بحروفه، ولا يعقل معانيه أبين منها في الشاهد لمن تُردّ شهادته له فيما هو ظنين فيه.

فهذا يبيّن أن الشافعيّ إنما اعتبر في الراوي أن يكون عارفًا بمعاني الحديث إذا كان يُحدّث بالمعنى، ولا يحفظ الحروف. والله أعلم.

فقوله هنا: "عاقلا لما يُحدّث به، عالما بما يُحيل معنى الحديث من اللفظ" هو شرط واحد، ليس فيه تكرير، بل مراده بعقل ما يُحدّث به فهم المعنى، ومراده بالعلم بما يُحيل المعنى من الألفاظ معرفة الألفاظ التي يؤدّي بها المعاني.

وقد فسّر أبو بكر الصيرفيّ في "شرح الرسالة" قولَ الشافعيّ: "عاقلًا لما يُحدّث به" بأن مراده أن يكون الراوي ذا عقل فقط، قال: وهذا شرط بإجماع. وهذا الذي قاله فيه نظر وضعف.

وهذا كلّه في حقّ من لا يحفظ الحديث بألفاظه بدليل أنه قال بعد ذلك: "أو يكون ممن يؤدّي الحديث بحروفه كما سمعه، ولا يحدّث به على المعنى"، فجعل هذا قسيمًا للذي قبله، فقسم الرواة إلى قسمين: من يحدّث بالمعنى، فيُشترط فيه أن يكون عاقلًا لِمَا يُحدّث به من المعاني، عالمًا بما يُحيل المعنى من الألفاظ. ومن يُحدّث باللفظ، فيُشترط فيه الحفظ للفظ الحديث، وإتقانه، وما علَّل به من اشتراط معرفة المعنى واللفظ المؤدّي له فهو واضحٌ، وقد سبق معنى ذلك عن إبراهيم النخعيّ. وقد قال أحمد في رواية الأثرم: سعيد بن زكريا المدائنيّ كنّا كتبنا عنه، ثم تركناه، قيل له: لم؟ قال: لم أكن أرى به في نفسه بأسًا، ولكن لم يكن بصاحب حديث. وهذا محمول


(١) فتح هذا كان رجلًا معروفًا بالعبادة والصلاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>