للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتَتَعَلَّقُ "على" "هذه بما قبلها عند من يقول به، كتعلّق "حاشا" بما قبلها عند من قال به، لأنَّها أوصلت معناه إلى ما بعدها، على وجه الإضراب والإخراج، أو هي خبر لمبتدإ محذوف، أي والتحقيق على كذا، وهذا الوجه اختاره ابن الحاجب، قال: ودلّ على ذلك أن الجملة الأولى وقعت على غير التحقيق، ثم جيء بما هو التحقيق فيها. ذكر هذا كلّه ابنُ هشام الأنصاريّ في "مغنيه" (١).

فيكون المعنى هنا: لكن هؤلاء وإن كانوا ليسوا مثل الصنف الأول في الحفظ والإتقان، يشاركون في أوصاف هي سببٌ لقبول رواياتهم، كوصفهم بالصدق، والستر.

(وإن كانوا فيما وصفنا) أي من الاستقامة في الحديث، والإتقان لمرويّاتهم (دونهم) أي أقلّ درجةً منهم. يعني أنهم أقلّ حفظًا، وإتقانًا، وهذا يدلّ على أن لهم حفظًا وإتقانًا، وإن لم يكن مثل الأولين.

[فائدة]: قال بعض النحويين: لـ "دون" تسعة معان: تكون بمعنى "قبلُ"، وبمعنى "أَمَام"، وبمعنى "وراء"، وبمعنى "تحت"، وبمعنى "فوق"، وبمعنى الساقط من الناس، وغيرهم، وبمعنى "الشريف" (٢) وبمعنى الأمر، وبمعنى الوعيد، وبمعنى الإغراء.

فأما "دون" بمعنى "قبل" فكقولك: دون النهر قتالٌ، ودون قتل الأسد أهوالٌ، أي قبل أن تَصِل إلى ذلك، والوعيد كقولك: دونك صِرَاعي، ودونك فَتَمَرَّسْ بي، وفي الأمر: دونك الدرهم، أي خذه، وفي الإغراء: دونك زيدًا في حفظه، وبمعنى "تحت كقولك: دون قدمك خَدُّ عدوّك، أي تحت قدمك، وبمعنى "فوق" كقولك: إن فلانًا لشريفٌ، فيُجيب آخر فيقول: ودون ذلك، أي فوق ذلك.

وقال الفراء: "دون" تكون بمعنى "على"، وتكون بمعنى "علَّ"، وتكون بمعنى "بعد"، وتكون بمعنى "عند"، وتكون إغراءً، وتكون بمعنى أقلّ من ذا، وأنقص من ذا. ذكر هذا كلّه ابنُ منظور في "لسان العرب" (٣).

وقد نظمت هذه المعاني، فقلت [من الرجز]:

لِدُونَ تِسْعَةٌ مِنَ الْمَعَانِي ... قَبْلُ وفَوْقُ تَحْتُ خُذْ بَيَانِي

أَمَامُ والسَّاقِطُ وَالإِغْرَاءُ ... وَالأَمْرُ وَالْوَعِيدُ زِدْ وَرَاءُ

وَعَلَّ عِنْدَ وَبِمَعْنَى بَعْدُ ... فَاحْفَظْ فَحِفْظُ الْعِلْمِ نِعْمَ الْسَّعْدُ


(١) "مغني اللبيب" ١/ ١٤٥.
(٢) هذا لم يذكر له مثالًا، ولعله اكتفى عنه بمثال "فوق" لأن الظاهر أنه بمعناه، وأيضًا فإن المعاني عليه تكون عشرة، لا تسعة، فلذا تركته في النظم، فتنبه. والله أعلم.
(٣) "لسان العرب" في مادة "دون" ١٣/ ١٦٥ - ١٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>