للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معارفه، وتبريزه في صناعته، وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه، لا يهتدي إليها إلا أفراد في الأعصار، فرحمه الله ورضي عنه، وأنا أذكر أحرفا من أمثلة ذلك، تنبيها بها على ما سواها، إذ لا يَعْرِف حقيقةَ حاله إلا من أحسن النظر في كتابه، مع كمال أهليته، ومعرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة، كالفقه، والأصولين، والعربية، وأسماء الرجال، ودقائق علم الأسانيد، والتاريخ، ومعاشرة أهل هذه الصنعة، ومباحثتهم، ومع حسن الفكر، ونباهة الذهن، ومداومة الإشتغال به، وغير ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها.

فمن تحري مسلم رحمه الله تعالى اعتناؤه بالتمييز بين "حدثنا"، و"أخبرنا"، وتقييده ذلك على مشايخه، وفي روايته، وكان من مذهبه رحمه الله تعالى الفرق بينهما، وأن "حدثنا" لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و"أخبرنا" لما قرىء على الشيخ، وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه، وجمهور أهل العلم بالمشرق، قال محمد بن الحسن الجوهري المصري: وهو مذهب أكثر أصحاب الحديث، الذين لا يحصيهم أحد، ورُوي هذا المذهب أيضًا عن ابن جريج، والأوزاعي، وابن وهب، والنسائي، وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث.

وذهب جماعات إلى أنه يجوز أن تقول فيما قرىء على الشيخ: حدثنا، وأخبرنا، وهو مذهب الزهريّ، ومالك، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وآخرين من المتقدمين، وهو مذهب البخاريّ، وجماعة من المحدثين، وهو مذهب معظم الحجازيين، والكوفيين.

وذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز إطلاق "حدثنا" ولا "أخبرنا" فى القراءة، وهو مذهب ابن المبارك، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، والمشهور عن النسائي. والله تعالى أعلم.

[تنبيه مهم] يتعلّق بهذه القاعدة:

قال أبو عبد الله الحاكم: الذي أختاره أنا في الرواية، وعَهِدت عليه أكثر مشايخي، وأئمة عصري، أن يقول الراوي فيما سمعه وحده، من لفظ الشيخ: حدثني بالإفراد، وفيما سمعه منه مع غيره: حدثنا بالجمع، وما قرأ عليه بنفسه: أخبرني، وما قُرئ على المحدث بحضرته: أخبرنا. ورُوي نحوُه عن عبد الله بن وهب، صاحب مالك، رَوَى الترمذي عنه في "العلل"، قال: ما قلتُ: "حدثنا" فهو ما سمعت مع الناس، وما قلت "حدثني" هو ما سمعت وحدي، وما قلت: "أخبرنا" فهو ما قرئ على

<<  <  ج: ص:  >  >>