[يوم الانشقاق]
إنَّ أول اسم من أسماء يوم القيامة اسم يتعلق بسورة من ضمن خمس سور عجلت بالشيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان العربي لا يشيب إلا بعد الستين والسبعين سنة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بلغ اثنتين وأربعين سنة بدأ الشيب يدب في رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم، فقال الصحابة رضي الله عنهم: عجباً! عجل عليك الشيب يا رسول الله! قال: (شيبتني هود وأخواتها) ما هي أخوات هود؟ أول واحده منها: الانشقاق، قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:١].
فالله سبحانه وتعالى يأمر أن تنظر إلى السماء وأن ترجع البصر مرة ومرتين، قال تعالى: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:٣] أي: هل ترى شقوقاً في السماء؟
الجواب
قال الله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات:٢٨] فالسماء ليس فيها تشقق ولا تصدع، لكن لكل سماء باب، والرسول صلى الله عليه وسلم دخل من أبواب السماء ليلة المعراج، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:١١] إذاً: السماء لها أبواب وليس باباً واحداً وهذه الأبواب نحن لا نراها، وعندما تنظر إلى السماء تجد أن الله رفعها بغير عمد نراها جل الخالق، وسكان السماوات كلهم من الملائكة، ولما خلق الله سبحانه وتعالى: السماوات والأرض أوحى إليهما بقوله: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:١١] فدخلا في طاعة الله عز وجل، فأوحى الله عز وجل في كل سماء أمرها، ودبر ملك السماوات والأرض، والله سبحانه يقول: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧].
روي عند الإمام الترمذي عن ملك من الملائكة أنه طلب طلباً غريباً من رب العباد سبحانه! فقال: أريد عمراً مائة ألف سنة، ومائة ألف جناح وقوة مائة ألف ملك؛ لكي أطوف مسبحاً بحمدك حول العرش.
فالملك مطبوع على الطاعة ومع ذلك يطلب الاستزادة، فقال الله: لك ما أردت، وأجيبت الدعوة، وانتهت المائة ألف سنة فوقف فوجد أنه لم ينه لوناً واحد من ألوان العرش، إذ إن العرش له ألوان لا يعلم جمالها إلا الله سبحانه، فوقف الملك يبكي واقفاً عند جنة عدن فطلعت حورية من الحور العين تقول متعجبة: هل هناك أحد يبكي عند الجنة؟! إن جاز له البكاء فقد يبكي فرحاً، قال الشاعر: هجم السرور عليَّ حتى أنه من فرط ما قد سرني أبكاني تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لم أكن أفكر أن هناك أحداً يبكي فرحاً، إلا لما رأيت أبا بكر يبكي فرحاً عندما بشر بصحبته للرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة.
كذلك لما وقف الملك يبكي وتعجبت الحوراء منه وقالت: تبكي لماذا يا عبد الله؟! قال: طلبت من ربي كذا وكذا فأعطاني، لكنني لم أنهِ لوناً واحداً من ألوان العرش، فماذا أعمل؟ قالت له: يا هذا! بصنيعك الذي صنعت ما بلغت جزءاً من مائة ألف جزء من ملك أبي بكر الصديق في الجنة.
وكان أبو بكر أخوف الناس، وكان إذا وقف يصلي لا يسمع القراءة من بكائه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصعد على المنبر وأبو بكر قاعد على حافة المنبر لا ينزل عينيه من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هو الصحابي الوحيد الذي عنده مقدرة أن يطيل النظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد له يد عندنا إلا وكافأناه عليها إلا أبا بكر، فإن له يداً عندنا لا يكافئه عليها إلا الله رب العالمين).
إذاً: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:٣] يعني: هل ترى من انشقاق أو انبعاج؟ قال تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:٤] أي: انظر مرتين {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:٤].
قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:١ - ٢] أي: حق لها أن تسمع الإذن من الله بأن تنشق؛ لأن الله يقول لها: انشقي يا سماء! فتتشقق وتقع تمهيداً لسماء أخرى ليست كهذه السماء.
قال تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:٣ - ٤] أي: يقول الله: يا أرض! أخرجي ما فيكِ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أترون ما إذنها؟) قالوا: لا يا رسول الله! قال: (تقول لي الأرض يوم القيامة: يا محمد! لقد أذن الله لي أن أمد، وأن أخرج ما في بطني، وأن أشهد بكل شيء عمله ابن آدم على ظهري، فاحذروا من الأرض فإنها أمكم)، كما قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه:٥٥] أي: خلقنا نحن منها فهي أم لنا، وستحضننا بعد هذا حضانة أخرى، فالأم تحضن ابنها في لحظة الحنان والشفقة والرضاعة، والقبر يحضن المؤمن كالأم حين تضم ابنها لصدرها عند الرضاعة بحنان، ومن الناس - والعياذ بالله رب العالمين - من يضيق القبر عليه حتى تختلف أضلاعه، فالذين يظلمون الناس ويفترون عليهم ويقتلونهم، والذين يحبسون الناس ويؤذونهم ويطردونهم من أعمالهم ويطاردونهم في معايشهم، ويتجسسون عليهم؛ أين يذهبون من رب العالمين؟ إذاً: يا عبد الله: تب إلى الله، فإن الكرسي سوف يزول، والمنصب سوف يزول، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨] أي: لا باقي إلا وجه الله، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].
فقوله تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:٣ - ٥] أي: حق لها أن تسمع الإذن من الله عز وجل بأن تخرج ما فيها.
وسمي هذا اليوم بيوم القيامة؛ لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين، وسميت بالساعة؛ لأن كل الناس يسعون إليها وهي تسعى إليهم، يعني: إن كنت لا تحب أن تسعى إليها فهي التي ستسعى إليك، فإما أن تلقى حتفك بيدك، وإما أن يأتيك الموت، فالساعة لا ريب فيها، قال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:٧].
كلَّم الله سبحانه وتعالى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقال: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:١٣] أي: صار رسولاً، قال: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:١٣ - ١٤] فأرسله بالوحدانية أولاً، قال: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:١٤] فالصلاة تنوب عن كل العبادات.
وقال: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:١٥] قال أهل التفسير: أكاد أخفيها فلا أقول إنها آتية، أراد الله شدة إخفائها، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:١٨٧].
فقوله: (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي: تأتي فجأة، فالأمر بيد من بيده الأمر كله، إذ يقول للشيء: كن فيكون.