[أصحاب اليمين]
القسم الثاني: هم أهل اليمين وهؤلاء أناس كانت الدار الآخرة أمامهم وهم لا يرتكبون ما حرم الله ولكن الدنيا قد تشغلهم قليلاً، ولكنهم أوابون إلى الله عز وجل في كل وقت فقد يعمل أحدهم خطأ ثم يتوب، لكن الغلطات درجات فـ أبو ذر نسي مرة فوضع رجله اليسرى في نعله قبل الرجل اليمين فتصدق بدينار، قال: خالفت سنة رسول الله.
وسهل بن عبد الله رضي الله عنه قعد مع جماعة أتوا ببطيخ فقالوا له: كل يا سهل، فامتنع عن الأكل، فسئل إذا ما كان البطيخ فيه شيء فقال: لا أدري كيف كان يأكله رسول الله، أي: لا أعرف الطريقة التي كان يأكل بها.
وكان أنس لا يأكل هو وأمه من إناء واحد، فذهبت تشتكيه إلى رسول الله، فسأله رسول الله عن ذلك فقال: يا رسول الله! أخاف أن تمتد يدي إلى جزء في الصحفة قد وقعت عليه عين أمي فأكون عاقاً لها.
يقول أبو حنيفة: رأينا هذا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، فمن رأى غير ما رأينا فله ما رأى ولنا ما رأينا.
ويقول: مذهبي هو الحديث الصحيح، فإن رأيت مذهبي يخالف الحديث الصحيح فقل بالحديث الصحيح ودع مذهبي.
وكان الإمام الشافعي يقول: ما حاججت أحداً إلا ودعوت الله عز وجل أن يجعل الحجة على لسانه.
يقول الله عز وجل: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:٢٧ - ٢٨]، والسدر نوع من الشجر الخالي من الشوك وليس كسدر الدنيا.
ونحن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في أخراكم من دنياكم إلا الأسماء)، يعني: مجرد مسميات وسأضرب لك مثالاً أوضح: عندما يصعد رواد الفضاء إلى الفضاء فإنهم يريدون تغذية وتغذيتهم ليست كأهل الأرض وإنما يعطونهم مادة فيها بروتين، وكربوهيدرات، وفيتامينات مختلفة، وهذه تغني عن الطعام، فإذا كنا في الدنيا قد عرفنا أشياء بالشكل هذا، فما بالك بما يصنعه الملك سبحانه لأهل الجنة، يقول تعالى عن ثمار أهل الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:٢٥]، ويقال: كل يا ولي الرحمن! إن اللون واحد ولكن الطعم مختلف.
في الجنة ما لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
و (المنضود) معناه أنه خالٍ من الشوك، فهو أصلاً فيه شوك في الدنيا، لكنه في الجنة منزوع شوكه، لأنه لا يوجد أي نوع من الألم في الجنة.
حتى امرأتك في الجنة لن تسمع منها إلا كل كلام سوي طيب.
{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:٢٩]، الطلح هو الموز المنتظم في شكله، حلو لا تراب فيه ولا أي شيء من شوائب موز الدنيا.
{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:٣٠]، وقد يقول قائل: من أين يأتي الله به.
وربنا يوم القيامة يبدل الأرض غير الأرض والسماوات، والشمس تترك مدارها الدنيوي ولكن الظل في الجنة نوع من النعيم في الجنة يعني: ربنا جعل من آياته في الدنيا الظل، وجعل الشمس عليه دليلاً، فيبدأ الظل يكبر ثم يصغر منذ طلوع الشمس إلى غروبها {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:٥]، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:٤٠]، لكن ظل الجنة نعيم من نعيمها.
{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:٣١]، سبحان الذي سكبه وسبحان من حده، هو مسكوب يجري في مجرى لا يعكر صفو طعمه، قال الله عنه في سورة محمد: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:١٥].
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة:٣٢]، وربنا عندما يقول: كثيرة فلا يمكن للإنسان أن يتصور كميتها {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:٣٣]، أي: أن الفاكهة التي لا يجدها الإنسان في الشتاء موجودة بشكل دائم في الجنة، فأي فاكهة تتخيلها موجودة في جنة الرحمن، اللهم لا تحرمنا منها يا رب العالمين.
{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:٣٤]، الفرش هنا كناية عن الزوجات لكن القرآن يتحدث بأدب رفيع، وليس مثل جماعة الأدب الذين ما عندهم أدب في الدنيا الذين يكتبون القصة وغيرها.
{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:٣٥]، وهذا يدل على أن الله يغير خلقة زوجتك، (فلو بصقت في البحر الملح الأجاج لحولته عذباً فراتاً).
(لو خرج أنملها يعني: طرف سبابتها إلى الناس في ليلة داجية لحولته نهاراً مضيئاً)، ترى بياض وجهك في صفحة وجهها، كلامها طيب، وشكلها طيب.
ربنا يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:٣٥ - ٣٨]، عرب: جمع عروب، والعروب هي المتحببة لزوجها، وليست صاحبة شك في زوجها، فلا وجود للشك في الجنة وإنما اطمئنان؛ لأن الله يقول: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:٤٩]، مكنون لا يحل إلا لصاحبه، وهذا جزاء تستر النساء المسلمات في الدنيا.
{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:٣٥ - ٤٠]، لكن في السابقين قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:١٣ - ١٤].
وفي آخر السورة تحدث حالة نزع الروح وهي أصعب اللحظات عند المؤمن.
قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:٨٣]، أي: الروح {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:٨٤]، أي: الميت والناس حوله ينظرون إليه كيف تنفس بصعوبة، وكيف أنه لا يستطيع الكلام {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:٨٥]، فنحن مجتمعون حوله وأقرب ما نكون إلى جسمه، ولكن الله أقرب منا إليه.
{فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:٨٦ - ٨٧]، فلا يستطيع أحد أن يرجع الروح إلى صاحبها بعد إخراجها منة.
عجز الطب والطبيب الحكيمُ وخطى الموت أسرعت لا تريمُ فما دام الله عز وجل أقرب إليه منا والملائكة قد نزلت لقبض روحه فقد أصبح في عالم غير عالمنا، ويمكن أن يكون مفتوح العينين لكنه ليس قادراً على أن يتكلم، ولو نطق لقال لنا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:١٩٧].
فهذه هي أصعب اللحظات، ولكن رسول الله يقول: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، ويحب لقاء الله بأن يقدم سابقة أعمال طيبة، ومن كان هذا حاله فإنه يقول للملكين: ألدار الهموم والأحزان تريدان أن ترجعاني؟ قدماني إلى ربي قدماني، فقد تركت الدنيا والمال والعيال، وجئت هنا برحمة الله، أما من كان عاصياً لا يعرف الله في الدنيا فإنه يقول: أرجعوني لعلي أعمال صالحاً فيما تركت، وقد كان في مهلة ثلاثين سنة وأربعين سنة وستين سنة، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨]، فالله يعلم ما توسوس به نفسك، قال تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦].
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:٨٥ - ٨٩]، الروح: هو الراحة.
وكان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما يزور المقابر يقول: (يا خالق هذه الأجسام البالية! أدخل عليها روحاً من عندك وسلاماً من عندي) وكان يقول هذا عليه الصلاة والسلام: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر وإن كان عسيراً فما بعده أشد)، أي: أن الكتاب يقرأ من عنوانه، فأما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
{فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:٨٩]، أي: أنه يفتح له باب يرى مقعده من الجنة فيقول: يا رب! عجل بالساعة.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:٩٠ - ٩١]، سلم أصحاب اليمين من كل سوء؛ لأن حسناتهم غلبت سيئاتهم والله سبحانه وتعالى قد تولاهم بفضله وبرحمته.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:٩٢]، أي: مكذبين بالآخرة، ومكذبين للعلماء، ومكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبين لكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (الضالين) أي: البعيدين عن طريق الصواب وطريق الهداية.
{فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة:٩٣]، وفي بعض البلاد العربية يسمى الفندق: نزلاً، فالنزل هو المكان الذي سيبيت ويقعد ويعيش فيه.
{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٩٤ - ٩٦]، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، ولما نزل قول الله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى