والجن كانوا مؤدبين في قولهم:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:١٠] وأنا أريدك أن تفهم وتتدبر كلام الله عز وجل هنا، فأريد مبني للمجهول، وكأنما خاف الجن أن ينسبوا الشر لله عز وجل، فقالوا:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:١٠]، ولما أتوا بالرشد ذكروا الله عز وجل، فانظر إلى الأدب في الكلام.
وقد تعلمنا من الخليل الأدب، فقد قال:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ}[الشعراء:٧٨ - ٨٠]، ولم يقل: والذي إذا أمرضني، وهذا من الأدب.
وانظر إلى الرجل الصالح صاحب سيدنا موسى عليه السلام الذي علمه فقال:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}[الكهف:٧٩] فقال: (أردت أن أعيبها) ففي العيب أتى بالإرادة ونسبها إلى نفسه، وفي اليتيمين قال:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}[الكهف:٨٢]، فالخير نسبه إلى الله، والشر نسبه إلى نفسه، وهكذا المؤمن مؤدب وسيدنا أبو بكر استفتي في فتوى فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان حسناً فمن الله، وإن كان غير ذلك فمن الشيطان ومن نفسي، وهذا من الأدب.
ومن الأدب في الدعاء: يا رب! إن عذبتني فبعدلك، وإن رحمتني فبفضلك.
اللهم عاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك.
وهكذا كان الصاحون يدعون، وربنا لا يظلم، وحاش لله أن يظلم، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:٤٩]، فإن عذبتني فهذا بمحض العدل؛ لأنك عادل، وأنت الحكم العدل، وإن رحمتني فبفضلك، فعاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك.