للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أهمية الحديث عن الدار الآخرة]

الحمد لله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة السابعة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، نسأل الله عز وجل في بداية هذه الجلسة الطيبة ألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً، نسألك يا مولانا رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخط والنار.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، نسألك يا مولانا رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، ارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.

اللهم استجب دعاءنا، واشفنا واشف مرضانا، وارحمنا وارحم موتانا، أوقع الكافرين في الكافرين، وأخرجنا من بينهم سالمين.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم من أراد بمسلم كيداً فاجعل اللهم كيده في نحره، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

اللهم انصرنا على أعدائك أعداء الدين، اللهم أعد إلينا المسجد الأقصى، اللهم طهره من رجس اليهود، اللهم طهر بيتك المسجد الأقصى من رجس اليهود، اللهم اقتلهم بدداً، وأحصهم عدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم انصرنا عليهم نصراً مؤزراً، واختم لنا منك بخاتمة السعادة أجمعين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

هذه حلقة جديدة في سلسلة الحديث عن الجنة وما فيها، ألا وهي الحلقة السادسة بإذن الله رب العالمين، نسأل الله سبحانه لنا ولكم وللمسلمين أن نكون من أهل الجنة، وسوف نقوم في هذه الحلقة إن شاء الله بزيارة لأحد قطاعات الجنة أو طائفة من سكان الجنة اللهم اجعلنا منهم يا رب! فنحن اليوم سنقوم بزيارة لننظر إلى هؤلاء الناس ما الذي أتى بهم إلى هذا المكان؟ وقد قلت وما زلت أكرر منذ أن بدأنا في الحلقة الأولى: أن حلقات الدار الآخرة ليست دراسة أكاديمية للحشر والنشور، والبعث والحساب، والميزان والنار وما فيها، والجنة وما فيها، وإنما المسألة أكبر من ذلك؛ لأن الحديث عن الدار الآخرة حديث يمس العقيدة بالدرجة الأولى، فالإنسان الذي يواظب على جلسات الدار الآخرة ويعقلها ويتعقلها يجد أنها تمس مسألة العقيدة؛ لأنني أوقن أنني قادم لا محالة على رب كريم رحيم غفور، قهار جبار قوي، يحاسبني على صغير الأمر وكبيره، ولا أريد أن تكون هذه المشاعر أو هذه العقيدة في هامش الشعور، إنني أريدها بالنسبة لحضراتكم في مركز الاهتمام؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى هو الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فقدم الله عز وجل ذكر الموت على ذكر الحياة، مع أن العقل يقول: إن الحياة أولاً وبعدها الموت، لكن عندما يقدم الله عز وجل ذكر الموت على ذكر الحياة فإن هذا يدل على أن مسألة الموت، وهي الأساس.

وقلنا: إن الذي يموت يموت عرفاً بالنسبة لنا، فعندما يقال: فلان مات فمعنى هذا أننا ذهبنا وأخذناه من البيت، ووضعناه في مكان آخر وأغلقنا عليه، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يكلمنا ولا يعمل، ولا يكتسب ولا يكسب، وهذا إنما هو الجزء الظاهري في الموضوع، أما الجزء الأساسي فقد انتقل الميت من حياة الدنيا إلى حياة من نوع آخر.

إذاً: أنا أتخيل أنه لا يسمعني، وأنا لا أسمع العذاب، ولا أرى النعيم الذي هو فيه، يعني: إن القبور التي نمر عليها عبارة عن أحجار وتراب، ولكن في داخلها إما نعيم أو عذاب، فالقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فهو إما صورة مصغرة لما سوف يراه المؤمن في جنة الرضوان، أو صورة مما سوف يراه العبد في نار جهنم.

إذاً: الميت قد انتقل، وبعد أن كان يتحرك أصبح لا يتحرك، وبعد أن كان ينمو أصبح لا ينمو، وبعد أن كان يأكل ويشرب صار لا يأكل ولا يشرب، وبعد أن كان يسب وينظر صار لا يسب ولا ينظر، ولكن هل هو يسمعني؟ نعم، هل هو يراني؟ نعم، فالميت -سبحان الله- يستطيع أن يرى ويسمع.

وقد قلنا من قبل: إن الأرواح الجديدة تستقبلها الأرواح القديمة، وتسألها عن أحوال أهل الدنيا؛ كيف حال فلان؟ وكيف حال علان؟ والأسرة الفلانية كيف حالها؟ والأسرة العلانية كيف حالها؟ فعندما يسأل أحدهم عن فلان، وكيف حال فلان؟ فتقول روح العالم الذي بينهم: دعوها حتى تستريح من عناء الدنيا، إنه جاء فقد كان عمره ستين أو سبعين سنة أو ثمانين سنة ونزل فجأة، والناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، وإذا ما انتبهوا ندموا، ولن ينفع الندم بعد العدم، سبحان الله.

إذاً: الإنسان في الحياة الدنيا هو في حالة من النوم، وفي حالة من أحلام اليقظة، لكن اليقظة الحقة عندما ينزل القبر، قال الله له في تلك اللحظة: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢] يعني: أكثر حدة، من أجل أن يرى الحقيقة بعينها، وكان العلماء يقولون له: يا أخي! يا حبيبي! لا داعي للخصام، لا داعي للمظالم، لا داعي للفوضى، اتق الله، انظر إلى حالك، انتبه أن تضيع أيامك، وينبهونك في محاضرات ولا فائدة، فأول ما يكشف عنه الغطاء يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠] فما أن يرى الملائكة أتت عليه، وملك الموت ينزع روحه ويسلمها للملائكة، فإن كان من أهل الجنة فملائكة الرحمة، وإن كان من النوع الثاني فملائكة العذاب.

{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٦ - ٢٧] أي: من يرقى بروح هذا؟ إن كان مؤمناً فملائكة الرحمة يرتقون بروحه، وإن كان من أهل الانحراف والفجور فملائكة العذاب.

فإن كان مؤمناً قيل له: اخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى روح وريحان، ورب راض غير غضبان، هذا عندما يمشي على ما يرضي الله، وعندما لا يتفلسف، لأنه عندما تكثر الفلسفة فاعلم أن الإيمان قد قل، وأول ما تجد شخصاً يسأل في الجبر والاختيار، وهل نحن مسيرون أم مخيرون؟ فاعرف أن إيمانه ضعيف، مثله مثل التلميذ الفاشل، نسأل الله أن يبعد الفشل عن أبنائنا وأبناء المسلمين، فالولد الفاشل يضيع وقته باستمرار.

وإن كان العبد فاجراً يقال له: اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله وغضب؛ لأنه طوال حياته يقول الكلمة السيئة، وينظر النظرة السيئة، فهو في أعلى مستويات الكبر والفسق والفجور، يقال له: اتق الله، ارحم المسلمين، كن متواضعاً، فيعرض ويستهزئ، كلام العالم على قلبه ثقيل، وكفى بالمرء إثماً أن إذا قيل له اتق الله غضب، فذلك دليل على أن قلبه مطموس البصيرة، وإذا رأيت الرجل يأكل أو يشرب أو يضحك عند المقابر فاعلم أن قلبه قد مات، الذين يذهبون ويزورون، ويمكثون يأكلون ويشربون عند المقابر قد ماتت قلوبهم، والدولة مسئولة عن كل من يسكن المقابر ويجور على حرمة الأموات، قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تجلس على جمرة فتحرق ثوبك فتخلص إلى جلدك خير لك من أن تجلس على قبر).

فكيف بهؤلاء الذي يأكلون ويشربون ويستخدمون التلفاز ويفتحون أشرطة الكاسيت في المقابر؟ الناس قد انطمست بصائرهم فلا يرون، فهيبة الموت قد ضاعت، وصار الحانوتية الذين كان من الواجب أن يكونوا أحن الناس وأرق الناس قلوباً أبعد الناس، يتاجرون بالموت كما يتاجر أهل الطب في صحة الناس، وأهل الصيدلة في أدوية الناس، صار أصحاب الحانوتية يتاجرون في الموت، يناقش أحدهم كم سيأخذ بالضبط في قبر ميت قد مات؟! لا يرحم أهله إن كانوا فقراء، أو إن كانوا موظفين محدودي الدخل، فليتقوا الله رب العالمين، وإلا فلن يجدوا من يرحمهم يوم القيامة: (من لا يرحم لا يرحم)، (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

إذاً: مسألة الدروس عن الدار الآخرة تمس العقيدة من أولها إلى آخرها، فمثلما تكلمنا عن النار وأهلها والعياذ بالله نتكلم عن الجنة وأهلها، ما صفة هؤلاء الناس؟ من الذي سيدخل الجنة؟ يقول أحد السلف: عجبت من النار كيف نام هاربها، وعجبت من الجنة كيف نام طالبها، ألا إنما الجنة محفوفة بالمكاره، ألا إنما النار محفوفة بالشهوات والملذات، يعني: الجنة قبلها عقبات حتى تصل إليها، وهي عقبات كثيرة تحتاج إلى صبر وتوكل وصدق ويقين، وثقة بالله عز وجل، وتحتاج إلى استماع لأوامر الله، ومجالسة لأهل العلم، وزيارات متكررة لبيت الله سبحانه، تريد أن يعود الإنسان نفسه على ذكر الله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٩١] ليتشبه بملائكة الرحمن سبحانه؛ لأن سيدنا الحبيب ليلة المعراج قال: (رأيت آلافاً من الملائكة قياماً لا يركعون، وآلافاً أخرى راكعين لا يرفعون، وآلافاً أخرى ساجدين لا يقومون) وبعد هذه العبادة كلها يحشرون مع العباد يوم القيامة، وأول من يتكلم الملائكة، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! لأن الله تجلى عليهم بنوره، وهم يعرفون مقام الله؛ ولذلك حتى حملة العرش الثمانية، يقول الأربعة الأولون: سبحانك على حلمك بعد علمك.

والله عليم بكل شيء، فلو أن ورقة في شجرة وقعت في القطب الشمالي فهي مكتوبة عنده في كتاب، ولو أن حبة قمح مغموسة في الرمال لا أحد يراها، فإن الله يراها، فهي مكتوبة عنده في كتاب.

وقد رأى رسول ا

<<  <  ج: ص:  >  >>