[من صفات عباد الرحمن التواضع]
يقول الله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:٦٣].
قد يقول قائل: الحمد لله كلنا هكذا، وأقول: لا، إنني أتمنى أن أجد رجلاً مصرياً يمشي على الأرض هوناً، ولو وجدته فلن أقبل يده فقط، بل سأقبل رجله؛ لأنه دخل تحت طائفة عباد الرحمن، ونقول هذا الكلام لأننا في ساعة الرضا قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا فلو أن امرأة تحب زوجة ابنها على سبيل المثال، فإذا فعلت زوجة ابنها أي خطأ فإنها تتغاضى عما حصل، وكأنه لم يحصل شيء، ولنفرض أن أم الولد غضبت على زوجة ابنها، فهل ستتغاضى عن خطئها؟ لا، تصير حسنات زوجة ابنها عيوباً، مثلما قال الشاعر: إذا صارت حسناتي اللاتي أدل بها لديك عوراً فقل لي كيف أعتذر؟ إذا كان القليل من الأخلاق التي أتخلق بها وأظن أن فيها خيراً والحمد لله تعتبر عندك عيوباً فكيف أعتذر لك؟ وكما قال الشاعر العربي عندما قال: إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتخطئون فنأتيكم فنعتذر نعم، هناك كبر بهذا الشكل، سبحان الله، فعندما ينصحك أخوك فتواضع، أين عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً؟! وكلمة (هوناً) معناها: الشيء الهين اللين السهل الخفيف، يقول صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)، ما معنى هذا؟ معناه: عندما تحب شخصاً لا تبالغ في حبه فتنقلب المحبة إلى العداوة، وكذلك العداوة يقول الشاعر: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة ولكن هناك نقطة: عندما تكون المحبة في الله فلن يحصل خصام، وكيف تعرف أن هذه المحبة ليست لله؟ عندما تأتي وتنصح أخاك فيأخذ عليك في نفسه، وهذا معروف في الواقع، لكن هناك أناس ينكرون أصل الواقع، ولو أن أحداً قام بنصيحة أحدهم لا يقبل، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
(أحب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما) عندما تقع مشكلة بينك وبين زوجتك ويحضر أهلها، لا تذكر كل مساوئها، لا تكشف المستور بينك وبينها، لأنه إذا اصطلحتم كيف سيكون ماء وجهك أمامها؟ إلا إذا كنت لا تستحي فاصنع ما شئت! عائشة وحفصة تكلمتا كلمتين ليستا لائقتين، فأتى إليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهن بعضاً من الكلام الذي تكلمن فيه، قال تعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:٣] أي: لم يذكر كل ما قلنه، فقلن: من أنبأك بهذا؟ سبحان الله! إنه سؤال غريب جداً، فقال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:٣] الشاهد أن الرسول أعرض عن الأشياء التي لا داعي لذكرها، ومثل سيدنا يوسف عندما فسر الرؤيا للملك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:٥٤]، فذهب إليه الذاهب يجري وقال له: يوسف أيها الصديق إن الملك يريدك، فسيدنا يوسف كان يجوز له أن يقص الرؤيا بأجرة، ولكنه فسرها لهم بلا مقابل، فعندما ذهب إليه قال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف:٤٦ - ٤٧] ففسر الرؤيا مباشرة، ولو كان شخصاً غيره فسيقول: أعطني الأمان، واسمع إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لو كنت مكان أخي يوسف لطلبت أن أخرج قبل أن أؤول الرؤيا)! قال الملك: ائتوا به، فلما أتى لم يقل له: إن امرأتك عملت وفعلت، والنساء عملن، وكن يغازلن ويقلن كلاماً ليس لائقاً، وإنما قال له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٠] هذا هو الأدب! وهذا أحد السلف طلق امرأته فقال له شخص: لماذا طلقت امرأتك؟ قال: إن المؤمن لا يخرج أسرار بيته خارجه، فلما انقضت العدة وتزوجت غيره، أتى له من بعد وقال له: إن المرأة قد انقضت عدتها وتزوجت، فلماذا طلقتها؟ فقال: أنا لا أتكلم عن زوجة غيري.
هذا عدي بن حاتم الطائي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، وقال: من لقي عدياً فليقتله، وليس له دية؛ لأنه كان قد شتم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلما وقعت سفانة بنت حاتم الطائي أخت عدي في الأسر، أحضروا الأسرى وعرضوهم على سيدنا الحبيب، فدخلت سفانة وقالت: يا محمد! خل سبيلي، فك أسري، أنا ابنة أكرم رجل في العرب، أنا ابنة الرجل الذي كان يوقد نيرانه للضيف، كان يقري الضيف، ويعين الكل -الضعيف- ويغيث الملهوف، ويعين على نوائب الدهر، فقال الحبيب: (يا جارية! والله إن هذه لأخلاق المسلمين، ولو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلوا سبيلها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق).
فلما عادت إلى طيء قالت لـ عدي: يا عدي! إن محمداً ينزل الناس منازلهم، وهو غير الذي تظن فيه، فلو أنك ذهبت إليه لعفا عنك، وهل يعقل هذا؟ نعم يعقل، قال: ومن الذي يؤمنني؟ قالت: لن يؤمنك أحد غيره، فدخل المدينة، ولم يعرف بنفسه.
فلما وصل إلى الحبيب وقف على عتبة الباب، وكان أبو بكر جالساً بجانب الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة يلاحظون أن أبا بكر لا ينزل عينيه من عيني سيدنا رسول الله، كان دائماً يحب ثلاثة أشياء كما قال: أحب الجلوس بين يديك، والنظر إليك، وإنفاق مالي عليك، فهمس أبو بكر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! هذا عدي بن حاتم الطائي يقف بالباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى وجه عدي فوجده آتياً بوجه غير الوجه الذي كان يشتمه به، فخلع الرسول صلى الله عليه وسلم عباءته وأعطاها عدي وقال: اجلس يا عدي هاهنا، فجلس عدي ووضع عباءة الحبيب صلى الله عليه وسلم على رأسه، هل رأيت مثل هؤلاء الناس؟ الإمام أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه كان في بلاد فاس في المغرب، فرأى في المنام إبليس عرياناً وقال له: يا لعين! ألا تستحي من الناس؟! أليس هذا عيباً عليك؟! فقال له: هل هؤلاء أناس يا أبا الحسن؟! أتظن أن الذين تراهم أناس؟ فقال له: فأين الناس إذاً؟ قال له: الناس الذين هم في مسجد الشونازية في بلاد فاس في المغرب.
فقام من الرؤيا وجهز متاعه وركب واتكل على الله، فسافر مدة شهرين يريد أن يبحث عن الناس، فلما وصل مسجد الشونازية دخل ووجد خمسة جالسين بعد صلاة العصر يضعون خدودهم على كفوفهم، قال: فدخلت عليهم فقالوا في صوت واحد: يا أبا الحسن! لا يغرنك كلام اللعين في الرؤيا، إذاً هم أناس أم ليسوا بأناس؟! نعم، تجد بعض الناس إذا قرأ كتاباً في العلم قال لك: أبو حنيفة رجل وأنا رجل، أنت رجل؟ أنا لا أرى أنك رجل، ولا داعي لهذا الكلام أن يذكر في حلقات الآخرة.
إذاً: من صفات أهل الجنة {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:٦٣].
وكان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بأن يمشي الإنسان رويداً لا يجري، لكنه كان له طبيعة خاصة، فإنه حين كان يمشي فكأنما يتحدر من صبب، أي: كأنه نازل إلى السفل، وكان يسير كأنما يتقلع تقلعاً، يرفع رجلاً ويضع رجلاً هكذا كان صلى الله عليه وسلم! سيدنا عطاء بن أبي رباح أحد التابعين رحمه الله قال: والله ما التقيت بأحد إلا وظننت أنه خير مني، ونحن اليوم للأسف الشديد تجد الأخ ملتحياً ويمشي في الشارع، وآخر حليق اللحية يسلم عليه فلا يرد عليه السلام، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:٨٦]! وهنا نقطة مهمة: لا تعير أخاك بالذنب فيعافيه الله ويبتليك، فانتبه أن تقول: فلان هذا لا يصلي وتستحقره أو تشتمه، ولكن قل: هداه الله، وادع له في ظهر الغيب، وذكره بالله واضحك معه وقل له: ما لك يا أخي لا تأتي لصلاة العصر؟! سيقول: يا أخي! إن وقت صلاة العصر وقت لعب كرة، فقل: يا أخي هي خمس دقائق تحضرها ثم عد، يعني: كن معه حنوناً، ليس بأن تقول له: تنشغل بالكرة! والله لن تفلح، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥].
جيء بـ نعيمان وهو يشرب الخمر، كلما أحضروه ضربوه بالنعال أمام رسول الله، فسيدنا عمر قال: أخزاه الله، أو لعنه الله، كم يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه يا عمر! إنه رجل يحب الله ورسوله)، فقال نعيمان: ادع لي يا رسول الله! فوضع يده على اليد التي تمسك الكأس، والفم الذي يشرب- وقال: (اللهم اغفر ذنبه واهده)، فترك نعيمان شرب الخمر.
الرجل الذي أتى وهجا الحبيب في وجود الصحابة، قال: إنني لم أرض عن محمد، فكان الصحابة يريدون الفتك به، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطاه فلم يرض، ثم أعطاه وقال: (أرضيت يا أعرابي؟ قال: نعم رضيت، فقال: قل للصحابة أنك رضيت، قال: يا صحابة محمد! قالوا: نعم، قال: قد رضيت عن محمد) انظر إلى وصف الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثل هذا الرجل كمثل رجل له ناقة شردت، فتبعها الناس فما زادوها إلا نفوراً، فقال الرجل: يا قوم! خلوا بيني وبين ناقتي فجعل يجمع لها من قمام الأرض في حجره حتى جاءت، فناخت وا