للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سعة رحمة الله وتوبته على من تاب إليه]

ورحمة الله واسعة، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم.

روي أن رجلاً من بني إسرائيل قال لحبر يهودي: يا سيدي! لا يوجد ذنب نهى الله عنه إلا وارتكبته، ولم أعمل خيراً قط، فقال له: قتلت؟ قال: نعم، قال: شربت الخمر؟ قال: نعم، قال له: ارتكبت كل الذنوب، قال: نعم، فقال له الحبر: خذ عرجوناً قديماً من النخل وضعه أمامك وأكثر من الصالحات فإن اخضر العرجون فسيكون الله قد تاب عليك، فأخذ الرجل الكلام بصدق، قال: نجرب، فوضع العرجون وأكثر من الحسنات، فكان يقوم الليل ويصوم النهار ويعمل الخير، واستمر شهرين وثلاثة أشهر والعود لم يخضر، وأصبح الصباح مرة وإذا بالعود كله أخضر، فذهب إلى الحبر يقبل يده ورجله ويقول له: بارك الله فيك، أنت الذي هديتني أنت الذي عرفتني، قال: خيراً إن شاء الله، قال: العود اخضر، قال له: دلني كيف تبت حتى أتعلم منك؟ ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب مبلغ أوعى من سامع)، فالمهم تأخذ الكلام بمنطق اليقين.

قال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:٣٠]، وتنزل الملائكة في ثلاثة أماكن: في الدنيا بالتثبيت، وهو الملك القرين الذي يكون معك باستمرار، يوفقك، فيقول لك: لا تقل هذا، ولا داعي لهذا، حتى عندما تقع في الخطأ وملك السيئات يريد أن يسجل، فالله عز وجل من رحمته يجعل الحسنات فوق السيئات، إذ إن ملك الحسنات يقول لملك السيئات: انتظر عسى أن يتوب، لماذا أنت مستعجل عليه؟ لماذا لا تحبه؟ كذلك ملك الحسنات يدعو له، ويقول: اللهم تب عليه، وهنيئاً لمن تدعو له الملائكة.

اللهم اجعلنا من الذين تدعو لهم الملائكة وتؤمن على دعائهم.

وعندما يدعو ملك الحسنات يؤمن ملك السيئات.

فإذا تاب العبد من سيئاته لم يكتبها الله عليه، مع أن الذنب وقع في الأرض، والأرض تشهد عليه يوم القيامة، فالله عز وجل ينسي الحفظة وينسي الأرض، فيجعل الأرض لا تذكر هذا الذنب، حتى لا تكون عليه شاهد إثبات، أليس الله رحيماً؟ كذلك إذا تاب العبد تقول الملائكة: اللهم فرحه كما فرحنا، إذاً: الملائكة تفرح بتوبتك، ويقولون: مادام أنه أدخل علينا الفرح وتاب فيا رب! أفرحه؟ ويفرح الله عبده بالجنة.

هذا هو التنزل الأول في الدنيا، والتنزل الثاني لحظة خروج الروح يثبتونه بالقول الثابت، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧]، إذاً: في الدنيا -أي: في الحياة- ولحظة خروج الروح تثبيت.

واقرأ سورة البروج لتعرف من هم أصحاب الأخدود، فقد حفروا أخدوداً وكان يؤتى بالرجل فيقال له: أتؤمن أن الملك هو الإله؟ يقول: لا، ربي الذي في السماء، وهو خالق السماوات والأرض، فيرمونه في النار، فأتوا بامرأة لها من الأولاد سبعة، فأمسكوا واحداً واحداً من أولادها، وقالوا لها: أتكفرين بالله وتؤمنين بأن الملك هو الله؟ فقالت لهم: لا، فيرمون أول ولد، ثم الولد الثاني ثم الثالث وكان السابع رضيعاً له ثلاثة شهور، فقالوا لها: ستؤمنين بالملك أنه هو الله، أو أنت مصرة على أن الله هو خالق السماوات والأرض؟ فالمرأة تلجلجت، فنطق الرضيع وقال: يا أماه اثبتي إنك على الحق، فهؤلاء أربعة تكلموا في المهد أولهم سيدنا عيسى وآخرهم هذا الولد، فلما قال الرضيع: اثبتي على الحق رمت المرأة نفسها ومعها ابنها في تلك النار من دون أن يقوم بدفعها أي شخص إلى تلك النار.

وهذه السيدة آسية امرأة فرعون، استمر فرعون في تعذيبها إلى أن وصل إلى لسانها فقالت: يا رب! هذا الذي يؤنسني بذكرك، أي: هذا الذي بقي لي لذكرك، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:١١]، فإذا بملك الموت ينزل ليقبض روحها وهي تبتسم، وكما يقال: جسدها في الفرش وروحها في العرش، فجسمها أمامهم مسجى، لكن كرم الله واسع.

إذاً: التنزل يكون في الدنيا ولحظة الموت، ثم بعد ذلك يكون التنزل عند الخروج من القبر، إذ يمشي الملك أمام المؤمن فيدله على مكانه في الجنة.

تقول الملائكة: ستصلك رسالة من الله من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت، صحيح أنه مات في الدنيا، لكن في الآخرة خلود بلا موت، والله يقول: عبدي! اشتقت إليك فزرني، ما هذا الكرم؟! إذاً: سنصبر ونصبر ونتمسك بالدين وننصر الإسلام ونتوكل على الله ونوقن بنصر الله عز وجل مهما يحدث من أذى ومصاعب.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} [فصلت:٣٠ - ٣١].

إن الواحد منا لو رأى رؤيا صالحة لفرح بها، فكيف يكون فرحه لو أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في الرؤيا؟ أنت تقول: أنا أريد أن أسمع منك القرآن، فما بالك إذا سمعت القرآن ممن نزل عليه القرآن؟! فلا شيء يضيع في الآخرة أبداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤذنون هم أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، وقارئ القرآن الذي يتقي الله عز وجل يقال له: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، فلو كان يحفظ القرآن كله ويعمل به لكان بجانب الحبيب المصطفى.

قال تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٢] والنزل هو المكان المعد للضيافة، إذاً: الجنة هي نزل، وهذا النزل من غفور رحيم، وهذه الآية دليل على أن العبد مهما كان صالحاً فله ذنوب، ولكن يغفرها الغفور سبحانه، بل أكبر الكبائر يغفرها الله سبحانه، فلا تظن أن ذنبك أعظم من عفو الله، بل إن عفو الله أعظم.

قيل لـ أبي الحسن: مات أبو نواس فهل تصلي عليه؟ قال: لا، قالوا: لماذا؟ قال: لأنه كان مجاهراً بالمعصية، فليصل عليه واحد منكم، فلن أصلي عليه.

وهذا فرض كفاية وليس فرض عين، إن صنعه البعض سقط عن الآخرين.

وقد كان أبو نواس عجيباً، فقد قال له أمير المؤمنين: إن رأيتك عند الجواري سأفصل رأسك عن جسدك، وكان يريد أن يتزوج امرأة اسمها أم طوق، وهي لم ترض به في قصر أمير المؤمنين، ففجأة دخل أمير المؤمنين القصر فوجد أبا نواس فوق، فقال: ماذا تصنع؟ قال: يا أمير المؤمنين! قد هزني الشوق إلى أم طوق فتدحرجت من تحت إلى فوق.

وقبل أن يصلوا صلاة الجنازة على أبي نواس لقي صديقه ورقة في جيبه، فأخرج الورقة وإذا بها آخر ما كتب: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم فعندما سمع أبو الحسن هذه الكلمات قال: يرحم الله أبا نواس، هيا لنصلي عليه، فصلى عليه لأنه ميت يحسن الظن بالله، ومن أحسن الظن بالله سيختم الله له بالخير إن شاء.

اللهم اجعلنا من محسني الظن بك يا رب العالمين!

<<  <  ج: ص:  >  >>