للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تجارة العبد مع الله سبحانه وتعالى]

أحمد الله حمداً يوافي نعمه علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثالثة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده، وهي بمشيئة الله سبحانه الحلقة الثانية عن الجنة.

أيها الإخوة الأحباب! الحديث عن الدار الآخرة يرقق القلوب الجامدة، ويجعل العيون التي لم تتعود على البكاء من قبل تذرف الدموع، وذلك عندما تتفكر أن صاحبها سوف يقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهذه الدروس تذكر الإنسان بالحقيقة الأساسية: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:٤٢] يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥].

ويؤتى بالموت على هيئة كبش بين الجنة والنار ثم ينادي: ما هذا يا أهل الجنة؟ ما هذا يا أهل النار؟ فيقول الفريقان: هذا هو الموت الذي كنا نخاف منه، فيؤمر بالموت فيذبح، ثم ينادي المنادي من قبل العلي الأعلى جل في علاه: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، يا أهل النار! خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار غماً وكمداً وحزناً، اللهم اجعلنا مع الذين رضيت عنهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، آمين يا رب العالمين! هذه الدروس إن لم تخفك من الله فلا فائدة فيها، هذه الدروس إن لم تقربك إلى الله، وتجعل قلبك رقيقاً لمجالس العلم، رقيقاً لكلام الله، محباً لطاعة الله عز وجل، محباً لأهل الله عز وجل، محباً للسائرين في طريق الله سبحانه فلا خير فيها، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك، وحبك كل عمل يقربنا إلى حبك يا رب العالمين.

وكل شيء له مفتاح، والجنة لها مفاتيح، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يحدثنا فيما رواه أبو نعيم والإمام أحمد في مسنده وصححه الحاكم، حيث قال: (إن لله عباداً مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ومن العباد عباد مغاليق للخير، مفاتيح للشر، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، ويا بؤس عبد جعله الله مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر).

فهناك أناس معهم مفاتيح الخير يفتحون بها قلوب الناس، وهناك أناس والعياذ بالله رب العالمين معهم مفاتيح يغلقون بها أبواب الخير على عباد الله، ويفتحون لهم أبواب الشر، وأيضاً يحدثنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن تبتاع منه، وإما أن يحذيك، وإما أن تشم منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثوبك، وإما أن تشم منه ريحاً خبيثة)، ولذلك من فضل الله عز وجل -وهو الستار الحليم- أنك تصنع الذنب وتخرج أمام الناس فيرونك ولا يدركون ولا يعلمون من أمر ذنبك وسيئاتك شيئاً.

يرونك في المسجد ويظنونك ملكاً من الملائكة، وصالحاً من الصالحين، وعالماً من العلماء، يظنونك محباً لأهل العلم وربما كان في قلبك غير ذلك، وربما هذه الرؤية تجعل الغير يدعو لك بالخير، فيجعل الله لك في هذه الدعوة الخير كله، فالإنسان لا يدري من أين يأتيه الخير، وربما دعوة مسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب يستجيب الله له، فيهدي الله عز وجل الاثنين إلى طاعته ورحمته.

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا يا ربنا واصرف عنا شر ما قضيت، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين.

والإنسان المسلم بفضل الله عز وجل مفاتيح الخير لا تسبب له قلقاً؛ لأن مفاتيح الخير لا تكلف شيئاً؛ لأن الله عز وجل يقول في سورة التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:١١١].

هذه الآية فيها أحد عشر لوناً من ألوان البلاغة، وألوان الأوامر، وألوان الفضل الإلهي: قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:١١١]، بدأت الآية بحرف التوكيد (إن)، وذكرت اسم المشتري: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:١١١]، ولفظ الجلالة (الله) هو اسم إن، فالله هو المشتري، و (اشترى) هذا فعل ماض، فالله قد اشترى بفضله سبحانه.

ثم ذكر البائع فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:١١١] اللهم اجعلنا منهم يا رب! {أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:١١١] الأنفس والأموال أعطاها لك الله ثم هو يشتري منك ما منحك بدون مقابل، أعطاك الله الجسد والروح، والدورة الدموية، والدورة التنفسية، والعقل، والفكر، والمشاعر، والعواطف، والأحاسيس، والود والرحمة، والمحبة، والإخلاص، كل هذا أعطاه لك ربنا، وأنت ماذا أعطيته عندما أعطاك هذا؟! إذاً: الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين شيئاً قد وهبه لهم بدون مقابل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:١١١]، المال أيضاً هو من مال الله، لكن الناس مالوا بالمال عن حقيقة المال، وقلنا: في اللغة سمي المال مالاً؛ لأنه مال بالناس عن الحق، معاملتك مع أخيك المسلم تكون جيدة، فإذا دخل المال فيها مالت علاقتك معه؛ لأن المال يميل بالقلوب إليه، المال تميل إليه القلوب والنفوس بطبيعتها، ولذلك يقول سيدنا علي: النفس تجزع أن تكون فقيرةً والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها ولذلك وقف الإمام الشافعي رضي الله عنه لما سافر إلى سيريلانكا -سيلان اليوم- وقال: أمطري لؤلؤاً سماء سرنديب وأفيضي آبار تكرور تبراً أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبرا همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا لأنه يعلم أن الرزاق هو الله، وأن المانح هو الله، وأن المانع هو الله، وأن المعز هو الله، وأن المذل هو الله، ولا شيء إلا الله، فوحد الله وعبده، وسار في طريق الله، فكانت عنده عزة إلا في الصلاة، تنحني جبهته أمام عظمة الله، ويتواضع أمام ربه وأمام المسلمين، لكن في غير ذلك كان رأسه في السماء بعزة المؤمن، فهو مع الكافرين عزيز بعزة الله له؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

إذاً: الله سبحانه وتعالى رزقك المال بدون أن تعطيه مقابلاً، ثم أراد أن يشتري منك، والبيع دائماً يكون فيه مكسب للطرفين -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل سوف يشتري منك النفس والمال وهو لمنفعتك والله غني عنه، يقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥] كلنا فقير إلى الله؛ ولذلك يقول الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا.

يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم.

يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أتقى قلب واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسأل كل واحد منكم فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إذاً: كلهم جائع إلا من أطعمه الله، وكلهم عار إلا من كساه الله، وكلهم ضال إلا من هداه الله، فلو أن الكل أطاع الله ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، ولو أن الكل عصى الله عز وجل ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً، ثم قال الله عز وجل: لو أن الجميع قد وقفوا في صعيد واحد، وكل واحد سأل الله مسألة، فأعطى كل واحد مسألته، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً أن يعطي كل سائل مسألته! إذاً: ما الفائدة التي تعود على المشتري في هذه الحالة بأن اشترى رب العباد سبحانه نفسك ومالك؟

الجواب

ليس له فائدة عائدة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:١١١] أي: التي رزقهم الله إياها.

وقلت من قبل: لو أنك عبدت الله مائة عام متواصلة، وربنا يكافئك بدل المائة العام في الدنيا مائة عام في الجنة، ثم ضاعف السنوات إلى عشرة أضعاف؛ لأن الحسنة عنده بعشر حسنات، ثم يضاعفها لك إلى سبعمائة ضعف، فتكون سبعين ألف سنة، ثم مكثت في الجنة سبعين ألف سنة ثم بعدها أين ستذهب؟ لا أكرم من الله، ولا أحن من الله عز وجل، فهو حنان منان يجود على العباد دون أن يسأل.

إذاً: أعطاك الجنة مقابل أن بعت له نفسك ومالك، قال تعالى: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١]، كيف سيحصلون عليها؟ قال: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:١١١].

قالت إحدى الصحابيات الجليلات: يا رسول الله! ابني الذي استشهد معك في أحد أفي النار هو فأبكيه، أم في الجنة فأصبر؟! إن كان في النار فهو يستحق البكاء؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة، لكن لو كان في الجنة فإنها ستصبر؛ لأن الله أبدله من الدنيا ما هو خير.

فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو في

<<  <  ج: ص:  >  >>