للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي

وهل يعمن إلا سعيدٌ مخلد ... قليل هموم ما يبيت بأوجال

قيل وهذا البيت الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة. لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لا توجد إلا في الجنة. انتهى.

ومما يعيب على أبي الطيب استفتاحه قصيدة في مدح ملك، يريد أن يلقاه بها أول لقية بقوله:

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسن المنايا أن يكون أمانيا

قال الثعالبي: وفي الابتداء بذكر الموت والمنايا، ما فيه من الطيرة التي ينفر منها السوق فضلاً عن الملوك.

حكى الصاحب قال: ذكر الأستاذ الرئيس يوماً الشعر فقال: إن أول ما يحتاج فيه إلى التأنق حسن المطلع. فإن ابن أبي الثياب أنشدني في يوم نيروز قصيدة ابتداؤها: (أقبرونيا طلت ثراك يد الطل) . فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر. انتهى كلامه.

قلت: والناس يستحسنون قول أبي الطيب في مفتتح قصيدته اللامية التي مدح بها كافور وهو:

لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

ويعدونه من براعة الاستهلال، لما كان بناؤه على الاعتذار عن حمل تقدمه. والذي أراه أن هذه المواجهة، مما يستثقلها السامع، فعدها في هذا السلك أولى من ذكرها في براعة الاستهلال.

وروى أبو علي حسن بن سعد الكاتب قال: أنشدني أبو المناقب الشاعر عيدية في الملك الأفضل أولها: (نهنيك كلا بل نهني بك الدهرا) . فقلت له: الابتداء هكذا مما يتطير به. وذكر له خبر ابن مقاتل فوافقني على ما قلته، وغير الابتداء فقال-

(نهنيك والأولى نهني بك الدهرا) .

وحكى أن شاعراً أنشد الشريف فخر الدولة ابن أبي الحسن نقيب الطالبين قصيدة يهنيه فيها بشهر رمضان. وكان الشريف يتأذى بالصوم لمرض يجده وكان أولها (أيا منابك كلها رمضان) . فقال الشريف: طوال والله مشومة علي مكروهة مبغضة إلي. وحرمه ولم يعطه شيئاً.

ولما أنشد جرير، عبد الملك بن مروان قوله: (أتصحو أم فؤادك غير صاح) . قال له عبد الملك: بل فؤادك يا بن الفاعلة.

وكذلك لما أنشده ذو الرمة: (ما بال عينيك فيها الماء ينسكب) . وكان بعين عبد الملك مرض لا تزال عينه تدمع منه. فقال له: ما سؤالك عن هذا يا جاهل. وأمر بإخراجه. وكذلك فعل ابنه هشام بأبي النجم لما أنشده:

صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول.

وكان هشام إنما يعرف بالأحوال، فظن أن عرضه به فأمر بإخراجه وطرده.

ولما قدم الشيخ الأديب الشيخ حسين بن شهاب الدين الطبيب وافداً على الوالد بالديار الهندية في سنة ثلاث وسبعين وألف، كان أول قصيدة امتدحه بها، قصيدة مفتتحها قوله:

لك الخير لا زيد يدوم ولا عمر ... ولا ماء يبقى في الدنان ولا خمر

فلم يبق في المجلس من يتعلق بأطراف الأدب إلا وأنكر هذا المطلع وقال: هذا بافتتاح مرثية أولى منه بافتتاح مدحةٍ. ولم يكن من عادة الوالد أن يتطير بشيء من الطيرة؛ فلم يعبأ بذلك.

إذا عرفت هذا؛ فمن الواجب على الشاعر والكاتب وغيرهما أن يفتتح كلامه بما يتفاءل به السامع؛ ويطيب به وقته.

ومن غريب ما يحكى في أمر التفاؤل هنا؛ ما حكاه أبو الحسن الباخرزي في كتابه دمية القصر؛ قال: من أعجب ما اتفق لي مع عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري: إني داعتبه في بعض الأوقات قبل وزارته بأبيات مفتتحها:

أقبل من كندرٍ مسيخرة ... للنحس في وجهه علامات

قال: فضرب الدهر ضربانه، حتى صار العيوق مكانه. وألقيت إليه مقاليد الممالك، واستتبت به مراتب الدولة في تلك المسالك. وتصرفت بي أحوال إدانتي إلى ديوان الرسائل بالعراق، فدخل الديوان يوماً وأنا قريب العهد بالانتظام فيه. فلما وقع بصره علي، أثبت صورتي، وأقراه تذكر العهد القديم سورتي. فاقبل علي وقال: أنت صاحب أقبل؟ يشير إلى الأبيات التي مازحته بها، فقلت: نعم أيد الله سيدنا، فقال: قد تفاءلت بأبياتك إذ كانت مفتتحة بلفظ الإقبال، مؤذنة بفراغ البال. وأومض لي في وجهه من مخائل الاستبشار ما حملني على التوسل إليه بهجوه في بعض ما مدحته به من الأشعار، وقلت فيه من قصيدة:

أتيح إقباله إذ قلت أقبل من ... واها لا قبالة الوافي بما ضمنا

<<  <   >  >>