للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتعجب الحاضرون من هجو صار وسيلة إلى المهجو، وصار ذلك غرة في جبين كرمه، وطرازاً على كم فضله. انتهى. فهم من التفاؤل بهذه المثابة.

وكان) صلى الله عليه وآله وسلم (يحب الفال الصالح، والاسم الحسن ويكره الطيرة - بكسر الطاء وفتح الياء - وهي التشاؤم. وقال) صلى الله عليه وآله وسلم (: ليس منا من تطير أو تطير له. ونزل) صلى الله عليه وآله وسلم (، على كلثوم بن الهدم، فصاح بغلام: يا نجيح؛ فقال) صلى الله عليه وآله وسلم (: أنجحت يا كلثوم. وقال) صلى الله عليه وآله وسلم (لتاجر أراد الخروج وفي القمر محاق: (تريد أن تمحق تجارتك؟ استقبل هذا الشهر بالخروج) . وسمع) صلى الله عليه وآله وسلم (رجلاً يقول: يا حسن، فقال: (أخذنا فالك من فيك) .

تنبيه: قال الدميري في حياة الحيوان: إنما أحب النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (الفال، لأن الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء. قالوا: يا رسول الله، لا يسلم أحد منا من الطيرة، والحسد؛ والظن؛ فما تصنع: قال: (إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تتحقق) .

واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف. وأما من لا يبال به لم يعبأ به فلا يضره البتة، لا سيما أن قال عند رؤية ما يتطير منه، أو سماعه؛ ما روي عن النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (: (اللهم لا طير إلا طيرك ولا خيرك إلا خيرك ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) . وأما من كان معنياً بها فهي أسرع إليه من السيل إلى منحدره، تفتح له أبواب الوسواس فيما يسمعه ويراه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة. في اللفظ والمعنى، ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه معيشته. فليتوكل الإنسان على الله في جميع أموره، ولا يتكل على سواء. وذلك لأن الناس في التوكل على أحوال شتى. متوكل على نفسه أو على ماله. أو على جاهه أو على سلطانه، أو على غلته، أو على الناس؛ أو على ذاهب يوشك أن ينقطع وكل مستند إلى حي يموت. فنزه الله نبيه عن ذلك، وأمره أن يتوكل على الحي الذي لا يموت.

ومن غريب ما يحكى من أمر التطير: ما حكاه محمد بن راشد. قال أخبرني إبراهيم بن المهدي، أنه كان مع الأمين بمدينة المنصور، قال: فطلبني ليلة فأتيت، فقال: ما ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر وضوئه في الماء، فهل لك في الشراب؟ قلت: شأنك، فشربنا، ثم دعا بجارية اسمها ضعف؛ فتطيرت من اسمها؛ فأمرها أن تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي.

كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ذنباً منك ضرج بالدم

فتطير بذلك وقال: غني غير هذا، فغنت:

أبكي فراقك عيني فأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء

ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء

فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم ... حتى أأوب وما في مقلتي ماء

فقال لها: لعنك الله، أما تعرفين غير هذه، فقالت: ظننت أنك تحب هذا. ثم غنت:

أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك

ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك

ألا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك

فقال لها: قومي لعنك الله، فقامت فلتت في قدح بلور له قيمة فكسرته. فقال: ويحك يا إبراهيم، أما ترى، والله ما أظن أمري إلا قرب. فقلت: بل يطيل الله عمرك، ويعز ملكك فسمعت صوتاً من دجلة قضي الأمر الذي فيه تستفتيان فوثب محمد مغتماً، وقتل بعد ليلة أو ليلتين.

وحكى صاحب كتاب الهفوات: إن أرطاة بن سهية دخل على عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام، فرآه عبد الملك شيخاً كبيراً، فاستنشده فيما قاله في طول عمره فأنشده:

رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد

وما تبقي المنية حين تأتي ... على سن ابن آدم من مزيد

وأعلم أنها ستكر حتى ... توفي نذرها بأبي الوليد

<<  <   >  >>