للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: فارتاع عبد الملك، وظن أنه عناه لأنه كان يكنى أبا الوليد، وعلم أيضاً أرطأة بسهوه وزلته فقال: يا أمير المؤمنين إني أكنى بأبي الوليد وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلاً.

وحكي أنه لما بنى أبو العباس السفاح داره بالأنبار دخل عليه عبد الله بن الحسين بن الحسن) عليه السلام (فتمثل بهذا البيت حين رأى السفاح:

يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يحدث كل ليلة

فتغير وجه السفاح، فاعتذر إليه عبد الله بأنه جرى على لسانه. فما مر عليه أيام حتى مات.

ومن عجيب ما يحكى في التطير أيضاً: أن السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب، لما خرج من القاهرة إلى جهة البلاد الشامية، أقام ظاهرة البلد لتجتمع العساكر، وعنده الأعيان من الدولة والعلماء والأدباء، فأخذ كل واحد يقول شيئاً في الوداع والفراق. وكان في الحاضرين معلم أولاده، فأخرج رأسه من بين الحاضرين، وأشار إلى السلطان منشداً:

تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار

فانقبض السلطان والناس، وتطيروا من ذلك. وكان الأمر على ما قال: فإنه لم يعد بعدها إلى مصر، واشتغل بالبلاد الشرقية؛ وفتوح القدس والسواحل إلى أن مات رحمه الله تعالى.

تنبيهان: (الأول) - قال أهل البيان: إذا لم يراع المتكلم افتتاح كلامه بما يتفاءل به فلا أقل من أن يحترز عما يتطير به، بل ينبغي اجتناب ذلك حتى في أثناء الكلام، ولا يقصر على مفتتحه.

روي أنه لما أنشد الصاحب بن عباد عضد الدولة قصيدته الملقبة باللاكنية (لكثرة ما فيها من لفظة لكن) وأولها:

أشبب لكن بالمعالي أشبب ... وأنسب لكن بالمفاخر أنسب

ولي صبوة لكن إلى حضرة العلى ... وبي ظمأ لكن من العز أشرب

فلما بلغ إلى قوله فيها:

ضممت على أبناء تغلب تاءها ... فتغلب ما مر الجديدان تغلب

قال عضد الدولة: يكفي الله تطيرا من قول تغلب.

قيل: ومما يتعجب منه في هذا الباب قول مهيار الديلمي على جلالة قدره واتقاد خاطره وحسن تخيله:

وإنك مذخور لإحياء دولة ... إذا هي ماتت كان في يدك النشر

كيف يقول لممدوحه: بأن تنشر يده. وكذلك قوله يتغزل:

في صدرها حجر صدارها ... ماء يشف وبانة تتعطف

فقوله: في صدرها حجر مع أبشع لفظ لما فيه من إيهام الدعاء عليها.

وكذلك قول ابن قلاقس:

بطلاقة أبدت بصفحة وجهه ... وضح الصباح لمن له عينان

حيث جعل الوضح بوجهه.

(الثاني) : قالوا: ينبغي أن يحترس الناظم مما يتأول عليه ويبادر بالجبة إليه، كما يقيل لأبي تمام حين أنشد: (على مثلها من أربع وملاعب) : لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وكان في أبي تمام حبسة شديدة، فانقطع خجلا.

وأنشد الجعدي بعض الملوك:

لبست أناساً فافنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا

فقال: ذلك لشؤمك. فعلى الناظم التنبيه لذلك والاحتراس من الوقوع فيه.

وهذا القدر كاف في التنبيه من سنة الغفلة. والنثر مقيس عليه والله الموفق.

فائدتان. (الأولى) - علم المعاني والبيان والبديع: يستشهد فيه بكلام المولدين وغيرهم، لأنه يرجع إلى العقل، والعرب وغيرهم فيه سواء.

وقال ابن جني: المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ.

قال ابن رشيق في العمدة: الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين، لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا، وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض. فإنهم حضروا الحواضر. وتفننوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان مادلتهم عليه بداهة العقول من فضل التشبيه ونحوه.

ومن هنا ما يحكى عن ابن الرومي: إن لائماً لامه وقال له لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئاً من شعره أعجز عنه.

فأنشده في صفة الهلال:

أنظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر

فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده:

كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه

مداهن من ذهب=فيها بقايا غاليه فقال: واغوثاه، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ذاك يصف ماعون بيته لأنه من أبناء الخلفاء وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به، امدح هذا مرة، وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، واستعطف هذا طوراً. انتهى.

<<  <   >  >>