وقوله وهي الرابعة والثمانون: رب جائع مطعام، ورب أعزل مقدام ورب حسناء مردودة؛ ورب خرقاء محسودة. أخلاق متعاكسة، وشركاء متشاكسة؛ وأقسام متباعدة "وما أمرنا ألا واحدة" سبب واحد، وأحكام متعددات؛ وقضاء فرد، وأحوال متجددات؛ وقدرة غلباء؛ وأقدار متغايرات؛ وبيضة مكنونة؛ وأفراخ متطايرات، كلمة قدسية تنشيء الإيمان والكفر، كخابية المسيح تخرج الحمر والصفر، وكالشمس بنورها تلون الحبر والياقوت؛ أو كالنجار بقدومه ينحت المهد والتابوت. الدعوة واحدة وإن تباينت كلمات الرسل، والمقصد واحد وإن تقاذفت جهات السبل. ثمار تسقى بماء واحد "ونفضل بعضها على بعض في الأكل".
وقوله وهي المقالة السابعة: طوبى للتقي الخامل، الذي سلم من إشارة الأنامل، وتبا لمن قعد في الصوامع، ليعرف بالأصابع. خزائن الأمناء مكتومة؛ وكنوز الأولياء مختومة. والكامل كامن يتضاءل؛ والناقص قصير يتطاول، والعاقل قبعة، والجاهل طلعة فاقبع قبوع الحيات، وكن في الظلمات كماء الحياة؛ كنزك في التراب، وسيفك في القراب، عف آثارك بالذيل المسحوب، واستر رؤاك بسفعة الشحوب، فالنباهة فتنة؛ والوجاهة محنة؛ كن كنزا مستورا؛ ولا تكن سيفا مشهورا، إ ن الظالم لجدير أن يقبر ولا يحشر، والبالي خليق أن يطوى ولا ينشر. ولو علم الجزل صولة النجار؛ وعضة المنشار؛ لما تطاول شبرا، ولا تخايل كبرا، وسيقول البلبل المعتقل ليتني كنت غرابا "ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا".
وقوله وهي المقالة التاسعة والثلاثين: داهية وما داهية، وما أدراك ما هية: قاض خبيث المأكل، ثقيل الهيكل؛ يملأ الحشا بالرشا؛ ويؤذي جليسه بالجشا؛ ولان يطاع عشوة خير له من أن يأكل رشوة، قبلته عتبة السلطان، وسبلته مدبة الشيطان. قلمه وقود النيران، وخدمه لصوص الجيران يعرف الحق ولا ينفذه، ويرى الغريق ولا ينقذه، ينزع قميص اليتيم في مأتمه وينازع الطفل الصغير في مطعمه. يغمس يده في الميراث؛ وينفعه في المبال والمراث. إذا قسم جعل نفسه أكبر البنين، ويلحق اليتيم بالجنين. فما البغاث في منسر البزاة، ولا الحربي في أسر الغزاة، بأعجز من اليتيم في مخالب القضاة. يحسبهم الجهال صلحاء وهم مراق، ويظنونهم أمناء وهم سراق، يثنون على ذي العثنون؛ ويدعون لذلك المطعون؛ وهم إن عرفتهم حق العرفان، سراحين تعبث بالخرفان. يكتبون الزور وبه تجري أقلامهم، ويكتمون الحق وبه تأمرهم أحلامهم "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم" يلبسون الحق بالباطل، ويلبسون عارا وشنارا؛ و؛ "يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا".
وقوله وهي المقالة الرابعة والتسعون، وفيها اقتباس من الحديث النبوي أيضاً: عواتق الحجال، شقائق الرجال، الرجال قوامون والنساء قواعد، هم أعضاء الدين وهن سواعد؛ ما هن إلا مكاريب زروعهم، وشراسيف ضلوعهم، إلا فارفقوا بهن فإنهن لحم على خوان، واستوصوا بهن خيرا فإنهن عوان. ورجل بلا بعل، كرجل بلا نعل، والعزوبة مفتاح الزنا، والنكاح ملواح الغنى، ومن نكح فقد صفد بعض شياطينه، ومن تزوج فقد حصن نصف دينه ألا فاتقوا الله في النصف الثاني، فإن خراب الدين بشهوتين: شهوة الفرج وهي الكبرى، وشهوة البطن وهي الصغرى، فاعمر الركنين، واحكم الحصنين؛ فإذا فرغت من الرواق والصفة، فلا تهمل السقيفة والأسكفة. واعلم أن الدنيا والآخرة ضرتان، لك إليهما كرتان، إحداهما حرة خريدة، والأخرى أمة مريدة، فاجعل للحرة يومين؛ فإن لها قسمين، وللأمة قسما، فإن لها في كتابك اسما، وأضعف نصيب العقبى، ولا تنسى نصيبك من الدنيا، واحفظ القسمة العادلة، ولاتكن ممن يحبون العاجلة، فالويل كل الويل إن تميلوا كل الميل. واتق الميل بالقلب "فكل أولئك كان عنه مسؤولا" وإن كان ولابد "فللآخرة خير لك من الأولى" فإن اتقيت الزيغ فطلق الدنيا فإنها زائدة "وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة". انتهى.