وقلت أنا على هذا الأسلوب الحكيم، سالكا هذا النهج القويم- وأنا استغفر الله من قول بلا عمل، وأسأله من فضله بلوغ الأمل- مقالة في الإيقاض من سنة الغفلة لسنة الإتعاض: انتبه يا نائم، فقد هبي النسائم، ودع المنام، فقد انقشع الظلام، هذا الصبح قد لاحت تباشيره وهذا النجح فد وافاك بشيره، فحتى متى هذه الغفلة والغرة؟ وإلى متى هذه الفضيحة والمعرة؟ أركونا إلى الدنيا الدنية؟ واشتغالا عن المنية بالأمنية؟ ما أراك إلا قد تورطت، فاعمل لنفسك قبل أن تقول "يا حسرتا على ما فرطت " وذر الكبر والزهو "فما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو" فتبا لمن نسي وفاته، حتى ذهب أمره وفاته، وطوبى لمن عمل لغده؛ ولم يغتر من العيش برغده؛ فكم هذا التسويف يا ماطل؟ والحق لا يدرك بالباطل؛ فلا يغرنك قوم أعرضوا عن العلم والعمل "ذرهم يأكلون ويتمتعوا ويلههم الأمل" إن الذين أمنوا لا يسوفون من يوم إلى يوم ومن عام إلى عام "والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام".
مقالة أخرى في الحث على الأعمال؛ وبيان أن رضى الله سبحانه وتعالى لا ينال بالآمال: من عجيب أمر الإنسان وكل أمره عجيب أن يدعو فيرجو الإجابة، ويدعى فلا يجيب، أليس كما يدين يدان؟ وهل يجزى المرء إلا بما دان؟ عقل في فقار الجهالة هائم، وقلب في تيار الضلالة عائم، يرجو ولا يخاف، إيمان ظاهر؛ وكفر خاف؛ والخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين للطير، إن قص أحدهما سقط في هوة الضير. فيا أيها المغرور بأمله، المسرور بعمله، إنك في حبائل الشيطان واقع، ألما تصح والشيب وازع؟ فانظر لحالك قبل ترحالك، واعمل في يومك لغدك، قبل فوات الأمر من يدك، ولا تكن عن الآخرة باللاه "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله" ولا يعجبنك أمر قوم رضوا من الدنيا الدنية بالدون "إنهم اتخذوا الشياطين من أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ".
مقالة أخرى- في وصف عباد الله الصالحين وأولياؤه الفالحين.
لله در عصابة هم أهل الإصابة، ذاقوا شهد الدهر وصابه، وقاسوا محنة وأوصابه؛ فنبذوا الدنيا وراءهم ظهريا، وامتطوا من عزمهم جملا مهريا يرون ببصائرهم ما لا يرون بأبصارهم، وينتصرون بالله سبحانه لا بأنصارهم هم أعلام الهدى ومعالمه، وأركان التوحيد ودعائمه، أنفسهم في عالم الملكوت سائحة، وقلوبهم في غمار الرهبوت سابحة، نطقهم حكمة وذكر وصمتهم عبرة وفكر، إذا خوطبوا أحسنوا السمع "وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " أكفهم بالبذل مبسوطة، وأوصافهم بالفضل منوطة، يبذلون من المال خلاصه " يرجون تجارة لن تبور" ويخشون يوما يدعى فيه الخاسر بالويل والثبور "يهدون بالحق وبه يعدلون " يأمرون بالصلاح وهم المصلحون "أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون".
ولنكتف من محاسن الاقتباس الواقعة في المواعظ بهذه اللمعة المضيئة النبراس، ففيها قناع للمتعظ والواعظ.
ولا بأس بإظهار نور الاقتباس من مشكاة أهل الترسل، ليستضيء الأديب بأنوار اقتباسهم عند التوصل إليه والتوسل. فمن ذلك قول القاضي الفاضل- وهو رئيس هذه الصناعة من غير مناضل- من رسالة يصف، قلعة نجم، وهي من عيون الرسائل: هي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة. فاقدة حياة صالحها الدهر إن لا يحلها بقرعة، نادبة عصمة صافحها الزمن على أن لا يروعها بخلعه، فاكتنفت بها عقارب منجنيقات لم تطبع بطبع حمص في العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة في الأقارب.
إلى أن قال: فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هواليها طالع؛ وفتحت الأبراج فكانت أبوابا "وسيرت الجبال فكانت سرابا ".
وقوله: ولنا من الجيران من يجور، ويظن أنه إلى الله لن يحور ويصدق وعد الشيطان وما يعده الشيطان إلا الغرور، وتصدر عنه كل عظيمة، ويجهل أن الله عليم بذات الصدور ويظن أنه يرث الأرض وينسى ما كتب الله في الزبور.
وقوله: وينهى وصول كتاب كريم، تفجرت منه ينابيع البراعة، وتبرعت فيه بالحكم أيدي اليراعة، وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب وهطل منه لأوليائه كل صوب ولأعدائه كل شهاب أصيب.