يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
فقيل لي: أتعرف قائلها؟ قلت: لا، قيل: قائلها: هذا المدفون، وأنت الغريب الذي تبكي عليه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس به رحما وأسرهم بموته، فقال معاوية: لقد رأيت عجبا، فمن الميت؟ قال: عثير بن لبيد العذري.
وقريب من هذا الاتفاق، ما حكاه القاضي ابن خلكان في تاريخه_وفيات الأعيان_قال: أخبرني بعض الفضلاء أنه رأى في مجموع: أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي رضي الله عنه ببغداد وهو لا يعرفها وقد أخنى عليها الزمان، وذهبت بهجتها، وخلقت ديباجتها؛ وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة وحسن الشارة؛ فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان.
وتمثل بقول الشريف الرضي المذكور:
ولقد وقفت على ربوعهم ... وطلولها بيد البلى نهب
فبكيت حتى ضج من لغبٍ ... نضوي ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الديار تلفت القلب
فمر به شخص وهو ينشد الأبيات فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن هي؟ فقال: لا، فقال: هذه الدار لصاحب هذه الأبيات الشريف الرضي فتعجب من حسن الاتفاق.
وانشد بديع الزمان في مقاماته، لزين العابدين بن الحسين عليهما السلام:
هم في بطون الأرض بعد ظهورها ... محاسنهم فيها بوال دوائر
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم ... وساقتهم نحو المنايا المقادر
وأضحوا رميما في التراب وأقفرت ... مجالس منهم عطلت ومقاصر
وحلو بدور لا تزاور بينهم ... وأنى لسكان القبور تزاور
يرى مغردا في لحده وتوازعت ... مواريثه أرحامه والأواصر
وأضحوا على أمواله يهضمونها ... ولا حامد منهم عليه وشاكر
فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها ... ويا آمنا من أن تدور الدوائر
على خطر تمسي وتصبح لاهيا ... أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
أتخرب ما يبقى وتعمر فانيا ... فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ... ودينك منقوص ومالك وافر
وكيف يلذ العيش من هو موقن ... بموقف عدل يوم تبلى السرائر
وأن امرءاً يسعى لدنياه دائبا ... ويذهل عن أخراه لا شك خاسر
وقال العلوي الكوفي:
مررت بدور بني مصعب ... بدور السرور ودور الفرح
فشبهت سرعة أيامهم ... بسعة قوس يسمى قزح
تلون معترضا في السما ... ء فلما تمكن منها نزح
هذا ما أورده الطيبي من أمثال الموعظة.
قلت: ومنها ما أنشده العلامة النيسابوري في كتاب خلق الإنسان، قال كان الحسين بن علي سيد الشهداء كثيرا ما ينشد هذه الأبيات، وتزعم الرواة أنها مما أملته نفسه الطاهرة على لسان مكارمها الوافرة:
لأن كانت الأفعال يوما لأهلها ... كما لا فحسن الخلق أبهى وأكمل
وإن كانت الأرزاق رزقا مقدرا ... فقلة جهد المرء في الكسب أجمل
وإن كانت الدنيا تعد نفيسة ... فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وإن كانت الأبدان للموت أنشئت=فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
وإن كانت الأموال للترك جمعها ... فما بال متروك به المرء يبخل
وأنشد لأحمد بن أبي طاهر في التوسط بين الدنيا والدين، وقضاء كل واحد منهما في حينه:
ركبت الصبا حتى إذا ما ونى الصبا ... نزلت من التقوى بأكرم منزل
ودين الفتى بين التماسك والنهى ... ودنيا الفتى بين الهوى والتغزل
وقال آخر:
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا ... وبنوا مساكنهم فما سكنوا
وكأنهم كانوا بها ظعنا ... لما استراحوا ساعة ظعنوا
وقال آخر:
وما الدهر إلا شره قبل خيره ... ولذات عيش غالبتها الفجائع
فثغر بأيام المسرة ضاحك ... طرف بأيام الحوادث دامع
وقال آخر:
غنى المرء ما يكفيه عن سد خلة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
وقال آخر:
أيا جامع المال وفرته ... لغيرك إذ لم تكن خالدا
فإن قلت أخشى صروف الزما ... ن فكن من تصاريفه واحدا
وقال آخر:
ومن البلاء وللبلاء علامة ... أن يرى لك عن هواك رجوع
والعبد عبد النفس في شهواتها ... والعبد يشبع مرة ويجوع