قالت الكبرى ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر
هكذا أنشد هذه الأبيات ابن أبي الإصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير، ثم قال بعد إنشادها: إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه، وما ذاك إلا أن قوافي البيت لو أطلقت لكانت مرفوعة كما قالوا في قول رؤبة (قد جبر الدين الإله فجبر) فأنها تزيد على سبعين شطرا ولو أطلقت قوافيها لكانت كلها مفتوحة.
وأما بلاغته في الأبيات، فأنه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيها يدل على شغفها به، هي الصغرى، ليظهر بدليل الالتزام أنه فتى السن بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا ولا يقال: إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجربتها، فإني أقول: أنه تخلص من هذا الدخل بكونه أخبر: إن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل ذلك، وإنما كانت تهواه على السماع، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف، أظهرت من وجدها على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه ولم تتجاوز ذلك، وقنعت بالسؤال عنه، وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه، وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله، والعقل يمنعها من التصريح.
وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم، فكانت دون الكبرى في الثبات؛ والصغرى منزلتها في الثبات دون الوسطى؛ لأنها أظهرت في معرفة وصفه ما دل على شدة شغفها به؛ وكل ذلك وان لم يكن كذلك؛ فألفاظ الشاعر تدل عليه. انتهى.
قلت: رأيت هذه الأبيات في ديوان عمر بن أبي ربيعة من جملة قصيدة لكنها على غير هذه الصورة؛ وسياق النظم يدل على أن رواية ما في الديوان هي الصحيحة؛ وأول القصيدة قوله:
هيج القلب معان وصير ... دراسات قد كساهن الشجر
ورياح الصيف قد أزرت به ... تنسج الريح فنونا والمطر
وظلت فيها ذات يوم واقفا ... أسأل المنزل هل فيه خبر
للتي قالت لا تراب لها ... قطف فيهن انس وخفر
إذ تمشين بجثل ناعم ... ناضر النبت تغشاه الزهر
برمال سهلة زينها ... يوم غيم لم يخالطه قتر
قد خلونا فتمنين بنا ... في خلاء اليوم نبدي ما نسر
قلن يسترضينها منيتنا ... لو أتانا اليوم في سر عمر
بينما يذكرنني أبصرنني ... دون قيد الرمح يعدو بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم ... قد عرفناه وهل يخفى القمر
قد أتانا ما تمنينا وقد ... غيب الأبرام عنا والكدر
من حبيب لم يعرج دوننا ... ساقه الشوق إلينا والقدر
وكثير ما يشتمل شعر عمر بن أبي ربيعة على نوع المراجعة، وذلك لحكايته فيه مغازلته وحديثه للنساء، فقد كان رجلا غزلا، ومن جيد شعره قصيدته اللامية التي اعترف له جميل بالقصور عنها، وقد تضمنت هذا النوع من البديع، فلا بأس بإثباتها هنا لحسنها ورقتها، وهي:
جرى ناصح بالود بيني وبينها ... فقربني يوم الحساب إلى قتلي
فطارت بوجد من فؤادي وقربت ... قرينتها حبل الصفاء إلى حبلي
فما أنس مل أشياء لم أنس موقفي ... وموقفها وهنا بقارعة النخل
فلما توافقنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
وقالت لا تراب لها شبه الدمى ... أطلن مليا والوقوف على شغل
فقلن لها هذا عشاء وأهلنا ... قريب ألما تسامي موقف البغل
فقالت بما شئتن قلن لها انزلي ... فللأرض خير من وقوف على رحل
فأنزلن أمثال المها فاكتنفها ... وكل يفدي بالعشيرة والأهل
فسلمت واستأنست خيفة أن يرى ... عدو مقامي أو يرى كاشح فعلي
فقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي
فلما اقتصرنا دونهن حديثنا ... وهن طبيبات بحاجة ذي التبل
عرفن الذي نهوى فقلن لها ائذني ... نطف ساعة في طيب أرض وفي سهل
فقالت ولا تلبثن قلن تحدثي ... أتيناك وانسبن انسياب مها الرمل
وقمن وقد افهمن ذا اللب إنما ... فعلن الذي قد كان منهن من أجلي
فباتت تمج المسك في فيّ غادة ... بعيدة مهوى القرط صامتة الحجل