للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حتى إذا اغتر بإقبالها ... مالت لأعراض وهجران

وكان المأمون يقول: لو نطقت الدنيا لما وصفت نفسها بأحسن من قول أبي نواس:

إذا خبر الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق

وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق

وقد ألم بمعناه ابن بسام حيث قال:

أف من الدنيا وأيامها ... فأنها للحزن مخلوقة

غمومها لا تنقضي ساعة ... عن ملك فيها ولا سوقه

يا عجبا منها ومن شأنها ... عدوة للناس معشوقة

وذمها في النثر كثير جدا: ومدح علي عليه السلام للدنيا هو قوله، وقد سمع رجل يذمها: أيها الذّام للدنيا المغتر بغرورها، بم تذمها، أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ متى استهو أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى؟ أبمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك، تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينقع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثلت لك به الدنيا نفسك، وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها؛ ودار عافية لمن فهم عنها؛ ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحياء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة. فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوفتهم بسرورها إلى السرور. راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا، وتخويفا وتحذيرا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة. ذكرتهم الدنيا فذكروا وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا. انتهى.

ويوجد اختلاف كثير في روايات هذه الخطبة، وهذه الرواية أصحها فاني نقلتها من نهج البلاغة، وهو العمدة في كلامه عليه السلام.

وذكرت بقوله عليه السلام: مسجد أحباء الله قول بعضهم: الدنيا أحب إلي من الجنة فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لا أني في الدنيا مشغول بعبادة ربي، وفي الجنة مشغول بلذة نفسي، وبين الأمرين بون بائن.

ولعبد الله بن المعتز رسالة يمدح فيها الدنيا، حذا فيها حذو هذه الخطبة، وأين الثريا من الثرى، ومطلع سهيل من موقع السيل، قال فيها: الدنيا دار التأديب والتعريف التي بمكروهها يوصل إلى محبوب الآخرة، ومضمار الأعمال السابقة بأصحابها إلى الجنان، ودرجة الفوز التي يرقى عليها المتقون إلى دار الخلد، وهي الواعظة لمن عقل، والناصحة لمن قبل وبساط المهل، وميدان العمل، وقاصمة الجبارين، وملحقة الرغم بمعاطس المتكبرين، وكاسيه التراب أبدان المختالين، وصارعة المغترين، ومفرقة أموال الباخلين، وقاتلة القالين؛ والعادلة بالموت بين العالمين، ومهبط القرآن المبين، ومسجد العابدين، وأم النبيين صلوات اله عليهم أجمعين، وناصرة المؤمنين، ومبيرة الكافرين. فالحسنات فيها مضاعفة، والسيئات بآلامها ممحوة، ومع عسرها يسران، والله تعالى قد ضمن أرزاق أهلها وأقسم في كتابه بما فيها. ورب طيبة من نعمها قد حمد الله عليها فتلقفتها يد الكتبة، ووجبت بها الجنة، ومال من زينتها قد وجه إلى معروفها فكان جوازا على الصراط. وكم نائبة من نوائبها، وتجربة لحوادثها قد راضت الفهم، ونبهت الفطنة، وأذكت القريحة، وأفادت فضيلة الصبر وكثرت ذخيرة الآخرة. انتهى.

وقال أبو العتاهية:

ما أحسن الدنيا وإقبالها ... إذا أطاع اله من نالها

وقال آخر:

تذم دنيا إن تأملتها ... وجدت منها ثمر الجنة

ولأبي منصور عبد الملك الثعالبي كتاب كل شيء وذمه، ترجمه بيواقيت المواقيت، وهو غاية في بابه، فلنذكر منه هنا نبذا مستطرفة: مدح العقل_قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الناس يعملون الخيرات، وإنما يعطون أجورهم يوم القيامة على مقادير عقولهم.

وقيل له عليه السلام في الرجل الحسن العقل الكثير الذنوب فقال: ما من آدمي إلا وله خطأ وذنوب، فمن كانت سجيته العقل لم تضره ذنوبه لأنه كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة تمحو ذنوبه وتدخله الجنة. وكان الحسن البصري يقول: العقل هو الذي يهدي إلى الجنة ويحمي من النار، أما سمعت قول الله تعالى حكاية عن أهلها (لو كنا نسمع ونعقل ما كنا في أصحاب السعير) .

وقال آخر: العقل أحصن معقل.

<<  <   >  >>