وقال بعضهم: الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويشيرون، ويختلسون، ويعيرون ويستعيرون. فأما لحن في إعراب أو إزالة كلمة عن نهج الصواب فليس لهم ذلك.
وعن الشريد قال: استنشدني النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته, فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هيه هيه، حتى أنشدته مائة قافية.
وقال بعضهم:
الشعر يحفظ ما أودى الزمان به ... والشعر أفخر ما ينبي عن الكلم
لولا مقال زهير في قصائده ... ما كنت تعرف جودا كان في هرم
فائدة - أعلم أن الشعر من خواص لغة العرب، ولم يكن في غيرها من اللغات، وما يذكر أنه كان لليونانيين شعر فليس المراد به هذا الشعر وإنما كانوا يؤلفون الألفاظ المشتملة على المعاني التي تورث النفس انفعالا من قبض أو بسط، ولا يراعون وزنا ولا قافية. وأما ما هو المشهور الآن من الشعر الذي للفرس والترك ونحوهم فهو أمر حادث أخذوا طريقته من العرب، وتتبعوا أقوالهم وأوزانهم، واستخرجوا بأفكارهم بحورا زائدة. وقد يكون لغير العرب إلى الآن أيضاً ألفاظ يتغنون بها، ويتصرفون فيها بحسب ما يريدون من الألحان من دون رجوع إلى وزن أو قافية والله أعلم. وقد أمليت كتابا لطيفا، وديوانا طريفا في مقاصد الشعر، ترجمته ب (محك القريض) أوردت فيه من مدح الشعر والشعراء ما فيه مقنع لمن كان منه بمرأى ومسمع والله الموفق ذم الشعر والشعراء - كان يقال: الشعر رقية الشيطان.
ولذلك قال جرير وهو يمدح عمر بن عبد العزيز ويصف ترفعه عن استماع الشعر:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وقال آخر: لا خير في شيء أحسنه أكذبه.
وكان أبو مسلم يقول: إياك والشاعر فأنه لا يهجو إلا جليسه، ويطلب إلى الكذب مثوبة.
وقال آخر: لا تجالس الشاعر فأنه إذا غضب عليك هجاك، وإذا رضي عنك كذب عليك. وقد وصفهم الله سبحانه ومتبعهم من ورائهم بالصفة الخاصة بهم فقال "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ملا يفعلون".
وقرنهم بشر صنف من مستحلي الأباطيل وهم الكهنة فقال "وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون".
ومن أحسن وأصدق ما ذم به الشاعر قول عبد الصمد بن المعذل لأبي تمام وقد قصد البصرة وشارفها:
أنت بين اثنتين تبرز للنا ... س وكلتاهما بوجه مذال.
لست تنفك طالبا لوصال ... من حبيب أو راغبا في نوال.
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال.
فلما بلغت الأبيات أبا تمام قال: صدق والله أحسن. وثنى عنانه عن البصرة وأقسم أن لا يدخلها أبدا.
وقال أبو سعيد المخزومي:
الكلب والشاعر في حالة ... يا ليت أني لم أكن شاعرا.
أما تراه باسطا كفه ... يستطعم الوارد والصادرا.
وقال أبو سعيد الرستمي الأصبهاني:
تركت الشعر للشعراء إني ... رأيت الشعر من سقط المتاع.
مدح الكتب- قال الجاحظ: الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا.
إن شئت كان أعيى من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائبه، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه.
والكتاب نعم الظهر والعمدة، ونعم الكنز والعقدة، ونعم الذخر والعدة ونعم النزهة والسلوة؛ ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب هو الجليس الذي لا يغويك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والمستميح الذي لا يستزيدك، وهو الذي يعطيك بالليل طاعته بالنهار ويفيدك في السفر إفادته في الحضر.
ثم قال: وبعد فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة يقلب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء. ومن لك بواعظ مله وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبساكت ناطق. ومن لك بطيب أعرابي، وبرومي هندي، وبفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت حي.