كالعود يكفيك اللهيب دخانه ... فإذا اللهيب انجاب عنه تدخنا
ومن شعر محمد بن أبي حمزة العقيلي يذم الشجاعة:
ظلت تشجعني هند فقلت لها ... إن الشجاعة مقرون بها العطب
يا هند لا والذي حج الحجيج له ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب
ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر، وقد أجمع الناس على طوله فقال:
قصرت مسافته على متزود ... منه لوهن صبابة وغليل
ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل
وقال التهامي في النوائب:
لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار
ما كنت إلا زبرة فطبعنني ... سيفا وأرهف حدهن غراري
وقال آخر في ذلك:
جزى الله الشدائد كل خير ... وإن هي جرعت غصص الرفيق
وما شكري لها إلا لأني ... عرفت بها عدوي من صديقي
وقال آخر في الدعاء لأعدائه:
عداتي لهم فضل علي ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ولم أسمع في نوع المغايرة بأبدع من قول أبي الحسن الباخرزي في عميد الملك الكندري، حين اختصى وحلق لحيته. وسبب ذلك: أن مخدومه الملك ألب أرسلان أرسله إلى خوارزم شاه ليخطب له ابنته، فأرجف أعداؤه: إن عميد الملك خطبها لنفسه، وشاع ذلك بين الناس، فبلغ عميد الملك الخبر، فخاب تغير مخدومه عليه، فعمد إلى لحيته فحلقها، وإلى مذاكيره فجبها، وكان ذلك سبب سلامته من مخدومه. وقيل أن السلطان خصاه.
فلما فعل ذلك قال فيه أبو الحسن الباخرزي قصيدة يمدحه بها مطلعها:
طاب العميد الكندري شمائلا ... حتى استعار الروض منه مخائلا
منها في جب مذاكيره وهو قوله المشار إليه:
قالوا محا السلطان عنه ... لا انمحى
سمة الفحول وكان قرما صائلا
قلت اسكتوا فالآن زاد فحولة ... لما اغتدى عن أنثييه عاطلا
والفحل يأنف أن يسمى بعضه ... أنثى لذلك جذها مستأصلا
ومتى يضن على الحديد بفرعه ... أصل يسيل على الحديد مقاتلا
وله بما يخصى الجواد فيكتسي ... سمنا وقد رثت قواه ناحلا
فيغير في الظلماء غير منبه ... جيش العدو بأن يحمحم صاهلا
يهنيه نفي الأنثيين فإنه ... نقص يسوق إليه مجدا كاملا
ومنها في حلق لحيته:
هذا وقد كان الكسوف لشمسه ... متطرقا يذكي سنا متضائلا
فجلوا عن الشمس الكسوف ليملأ الأقطاب والأقطار ضوء شاملا
إن الأشاء إذا أصاب مشذب ... منه أتمهل ذرى وأث أسافلا
قال في الدمية: ولا أعرف أحدا مدح بهذا المديح، وهو نوع من الصنعة يسمى تحسين القبيح. انتهى.
وقد طال الشرح في نوع التغاير ولكنني متعت الأذواق بمحاسن أمثاله الغريبة، وقرَّطت المسامع بدرر شواهده التي لا تعتري حسنها ريبة.
وبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
فالله يكلؤ عذالي ويلهمهم ... عذلي فقد فرجوا كربي بذكرهم
غاير الناس في الدعاء لعذاله، وسؤاله الهامهم عذله، وما ذاك إلا أن العذول لا يزال يذكر الأحباب في عذله، فلما كرر العذال عذله بذكر أحبابه فرجوا كربه بذلك.
وما أحسن قول الشيخ عمر بن الفارض:
اعد ذكر من أهوى ولو بملام ... فإن أحاديث الحبيب مدامي
ليشهد سمعي من أحب وإن نآى ... بطيف ملام لا بطيف منام
فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... وإن مزجوه عذلي بخصام
كان عذولي بالوصال مبشري ... وإن كنت لم أطمع برد سلام
وبيت بديعية الشيخ عز الدين الموصلي قوله:
تغاير الحال حتى في النوى فبه ... أصبحت منتظرا أيام وصلهم
قال ابن حجة أنه نظم المغايرة ولكن غاير بها الأفهام، وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام.
ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.
وبيت بديعية ابن حجة قوله:
أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم
قال في شرحه: الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم أنا في مدحه لمعنى، وما ذاك إلا أنني لما أراه أتحقق أنه ما تجرد للمراقبة إلا وقد علم بزيارة الحبيب. فانظر إلى حسن المغايرة وغرابة المعنى وحسن التركيب. انتهى.