وأين هؤلاء من ذلك البدوي الذي شردت راحلته بالليل فاتبعها حتى أعيا فلما طلع القمر وجدها معلقة بخطامها ترعى من الشجر، فرفع رأسه إلى القمر فقال:
ماذا أقول وقلي فيك ذو حصر ... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت لا زلت مرفوعا فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد فعلا
وقد عدوا في الشمس معائب، كما عدوا في القمر، فقال بعضهم: الشمس تشحب اللون، وتغير العرق، وترخي البدن، وتثير المرة. إن أضحيت فيها أمرضتك، وإن أطلت النوم فيها أفلجتك، وإن قربت منها صرت زنجيا، وإن بعدت عنها صرت صقلبيا.
وقال المشرف التيفاشي في ذمها:
في خلقة الشمس وأخلاقها ... شتى عيوب ستة تذكر
من صبحها النور لا مسائها ... مغائر الأشكار لا يفتر
رمداء عمشاء إذا أصبحت ... عمياء عند الليل لا تبصر
ويغتدي البدر لها كاسفا ... وجرمه من جرمها أصغر
حرورها في القيظ لا يتقى ... ونورها في القر مستحقر
وخلقها خلق الملول الذي ... ينكث في العهد ولا يصبر
ليست بحسناء وما حسن من ... يقصر عنه اللفظ أن يخبر
وأحسن من هذا قول ابن سناء الملك:
لا كانت الشمس فكم أصدأت ... صفحة خد كالحسام الصقيل
وكم وكم صدت بوادي الكرى ... طيف خيال جاءني من خليل
وأعدمتني من نجوم الدجى ... ومنه روضا بين ظل ظليل
تكذب في الوعد وبرهانه ... إن سراب القفر منها سليل
وتحسب النهر حساما فتر ... تاع وتحكي فيه قلب الذليل
إن صدئ الطرف فما صقله ... إلا التجلي بمحيا جميل
وهي إذا أبصرها مبصر ... حديد طرف عاد عنها كليل
يا غلة المهموم يا جلدة ال ... محموم يا زفرة صب نحيل
يا قرعة المشرق وقت الضحى ... وسلحة المغرب وقت الأصيل
أنت عجوز لم تبرجت لي ... وقد بدا منك لعاب يسيل
وأنت بالشيطان قرنانة ... فكيف تهدينا سواء السبيل
قال الصفدي: انظر إلى هذا التمحل الذي تكلفه لإظهار معائب الشمس لتعلم تفاوت الناس في البلاغة. وأحسن ما في هذه القطعة قوله: يا غلة المهموم - البيت - والذي بعده حسن، والثالث أيضاً.
وهو مأخوذ من قول أبي العلاء المعري:
وفضل الشمس في الآفاق باق ... وإن مدت من الكبر اللعابا
انتهى. وما أحسن قول بعض الأعراب يصف أحوالها:
مخبأة أما إذا الليل جنها ... فتخفى وأما في النهار فتظهر
إذا انشق عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وإنجاب الحجاب المنمر
وألبس عرض الأرض لونا كأنه ... على الأفق الغربي ثوب معصفر
تجلت سريعا حين يبدو شعاعها ... ولم يبد للعين البصيرة منظر
عليها كردع الزعفران يشوبه ... شعاع تلألأ فهو أبض أصفر
فلما انجلت وابيض منها اصفرارها ... وجالت كما جال الوشاح المشهر
وجللت الآفاق نورا فأصعدت ... بحر له صدر الشجى يتسعر
ترى الظل يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت على الأرض ينشر
كما بدأت إذ أشرقت بطلوعها ... تعود كما عاد الكبير المعمر
وتدنف حتى ما يكاد شعاعها ... يبين إذا ولت لمن يتبصر
وأفنت قرونا وهي إذ ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كل يوم وتنشر
رجع إلى التغاير - وغاير الناس ابن المعتز في ذم الجود ومدح البخل فقال:
يا رب جود جر فقر امرئ ... فقام في الناس مقام الذليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وقال ابن الرومي في مدح الحقد:
وما الحقد إلا توأم العقل في الفتى ... وبعض السجايا ينسبن إلى بعض
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
وجرى الحجاج بن يوسف على سجيته فذم العدل ومدح الجور في قوله:
إذا عدل السلطان هان وإن يكن ... لدى جوره أمر فإن له نبلا
وما العدل إلا عجز رأي وضلة ... وكل أخي عدل سيورثه ذلا
وقال آخر في ذم الحلم والتواضع مغايرا للناس في ذلك:
الحلم عجز والتواضع ذلة ... عندي وبعض الحول حلو المجتنى
ولجام ذي السفه الجفاء فإن تزل ... عنه جفاءك عاد يركض في الخنا