كل الرياحين جند ... وهو الأمير الأجل
وما حمل ابن الرومي على هجوه إلا أنه كان يزكم من رائجته حتى قال فيه ما هو من عجائب التشبيه، ونوادر تقبيح الحسن والتهجين، وهو قوله:
وقائل لم هجرت الورد مقتبلا ... فقلت من شؤمه عندي ومن سخطه
كأنه سرم بغل حين أخرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه
أين هذا التشبيه القبيح من قول الآخر في الورد:
كأنه وجنة الحبيب وقد ... نقطها عاشق بدينار
وقد كان ابن الرومي ممن يخالف الناس، ويعكس القياس، فيذم الحسن ويمدح القبيح، وهو القائل:
في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه بعض تغيير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ذممت تقل قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... سحر البيان يري الظلماء كالنور
قال الصفدي: والحريري إنما فاق على من سواه بما أتى به في مقاماته في مدح الشيء وذمه، كما فعل في المقامة الدينارية، والتي فاضل فيها بين كتابة الإنشاء والحساب، والتي ذكر فيها البكر والثيب والزواج والعزوبة، وغير ذلك، وهذا هو البلاغة والتلعب بالكلام وصحة التخيل والذوق. انتهى.
وحكى الشريف المرتضى علم الهدى رضي الله عنه في كتاب الغرر والدرر قال: حكي أن أبا النظام جاء به وهو حدث إلى الخليل بن أحمد ليعلمه فقال له الخليل يوما يمتحنه وفي يده قدح زجاج: يا بني صف لي هذه الزجاجة فقال: بمدح أم بذم؟ فقال: بمدح، قال: نعم، تريك القذى ولا تقبل الأذى ولا تستر ما ورا.
قال: فذمها، قال: سريع كسرها بطيء جبرها. قال: فصف هذه النخلة - وأومأ إلى نخلة في داره - قال: أبمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: هي حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها. قال: فذمها؛ قال: هي صعبة المرتقى؛ بعيدة المجتنى؛ محفوفة بالأذى. فقال الخليل: يا بني نحن إلى التعلم منك أحوج.
قال السيّد المرتضى قدس الله سره الشريف: وهذه بلاغة من النظام حسنة، لأن البلاغة هي وصف الشيء ذما أو مدحا بأقصى ما يقال فيه. انتهى.
ويحكى أنه لما حفر عبد الله بن عامر بالبصرة نهره المعروف بنهر عامر ركب إليه يوما ومعه غيلان الضبي؛ فقال له: يا غيلان ما أنفع هذا النهر لأهل هذا المصر؟ فقال: نعم أصلح الله الأمير: هو سقياهم، وتأتيهم فيه ميرتهم، وتتعلم منه السباحة صبيانهم. فلما عزل عبد الله، وولي زياد وكان مولعا برفع آثار عبد الله، وأراد طم هذا النهر فلم يمكنه لفرط منافع الناس به، فركب يوما ومعه غيلان على شط ذلك النهر، فقال له زياد: يا غيلان ما أضر هذا النهر بأهل هذا المصر؟ فقال: نعم أصلح الله الأمير، تنز منه دورهم، ويكثر به بعوضهم، وتغرق فيه ولدانهم. فعجب الناس من تصرفه.
وتكلف ابن الرومي في هجو القمر وعدد له معائب فقال:
لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر رماه بالخطة الشنعاء
قال يا بدر أنت تغدر بالسا ... ري وتغري بزورة الحسناء
كلف في بياض وجهك يحكي ... نمشا فوق وجنة برصاء
يعتريك المحاق في كل شهر ... فترى كالقلامة الحجناء
وأبلغ ما قيل في ذلك وأجمعه قول بعض ظرفاء الكتاب ممن يسكن دور الكراء، وقد قيل له: أنظر إلى القمر ما أحسنه، فقال: والله ما انظر إليه لبغضي له، قيل: ولم؟ قال لأن فيه عيوبا لو كانت في حمار لرد بالعيب، قيل: وما هي؟ قال: ما يصدقه العيان، ويشهد به الأثر. فإنه يهدم العمر، ويقرب الأجل، ويحل الدين، ويوجب كراء المنزل، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويسخن الماء، ويفسد اللحم؛ ويعين السارق؛ ويفضح العاشق الطارق.
وتأذى ابن المعتز في ليلة من ليالي البدر بالقمراء، وذلك في الصيف فقال يذم القمر:
يا سارق الأنوار من شمس الضحى ... يا مثكلي طيب الكرى ومنغصي
أما ضياء الشمس فيك فناقص ... وأرى زيادة حرها لم تنقص
لم يظفر التشبيه منك بطائل ... متسلخ بهقا كجلد الأبرص
وما أسنى قول (ابن) سناء الملك:
ليل الحمى بات بدري وهو معتنقي ... وبات بدرك مرميا على الطارق
شتان ما بين بدر صيغ من ذهب ...
وذاك بدري
وبدر صيغ من بهق