وقال بعض الحكماء: إذا شاب العاقل سرى في طريق الرشد بمصباح.
فصل للبديع الهمداني في مدح الشيب (و) ذم الشباب: جزى الله المشيب خيرا فإنه أناة ولا رد الشباب فإنه هناة. وأظن الشباب والمشيب لو مثلا لمثل الأول كلبا عقورا، والآخر شيخا وقورا، ولاشتعل الأول نارا، واشتهر الثاني نورا. فالحمد لله الذي بيض القار وسماه الوقار، وعسى الله أن يغسل الفؤاد كما غسل السواد. إن السعيد من شابت لمته، ولم تخص بالبياض لحيته.
وقال دعبل:
أهلا وسهلا بالمشيب فإنه ... سمة العفيف وهيبة المتحرج
ضيف أحل بك النهى فقريته ... رفض الغواية واقتصاد المنهج
لا شيء أحسن من مشيب وافد ... بالحلم مخترم الشباب الأهوج
فكأن شعري نظم در زاهر ... في تاج ذي ملك أغر متوج
وقال طريح بن إسماعيل الثقفي:
والشيب أن يحلل فإن وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفس
لم ينتقص مني المشيب قلامة ... الآن حين بدا ألب وأكيس
وقال أبو تمام:
ولا يروعك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب
وقال أبو السمط:
إن المشيب رداء العقل والأدب ... كما الشباب رداء اللهو والطرب
هذا مختار اليواقيت في مدح الشيب.
وقال الشريف الرضي:
مسيري في ليل الشباب ضلال ... وشيبي ضياء في الورى وجمال
سواد ولكن البياض سيادة ... وليل ولكن النهار جلال
وما المرء قبل الشيب إلا مهند ... صدي وشيب العارضين صقال
وأطرب لقول شيخنا العلامة محمد بن علي الشامي أبقاه الله تعالى:
وإن في الشعرات البيض لو عملوا ... نورا لعيني ونوارا على عودي
بيض وسود إذا ماستجمعا حسنا ... حسن البياض على أحداقها السود
ذم الشيب - ومن أحسن ما قيل فيه على كثرته قول أبي تمام:
غدا الشيب مختطا بفودي خطة ... طريق الردى منها إلى النفس مهيع
هو الزور يجفى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقع
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسقع
ونحن نزجيه على الكره والرضى ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع
وقول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
تضاحكت لما رأت ... شيبا تلالا غرره
قلت لها لا تضحكي ... أنبيك عندي خبره
هذا غمام للردى ... ودمع عيني مطره
وقول الآخر:
من شاب قد مات وهو حي ... يمشي على الأرض مثل هالك
لو كان عمر الفتى حسابا ... لكان في شيبه فذالك
هذا ما أورده الثعالبي من الشعر في ذم الشيب.
ويعجبني إلى الغاية قول مهيار بن مرزويه الكاتب رحمه الله:
قالوا المشيب لبسة جديدة ... خذوا الجديد واستردوا لي الخلق
وقال القاضي شمس الدين بن خلكان: أنشدني الأديب أبو عبد الله شهاب الدين محمد بن يوسف بن سالم المعروف بالتلعفري في بعض ليالي شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وستمائة بالقاهرة، وهو من شعراء العصر المجيدين:
يا شيب كيف وما انقضى زمن الصبا ... عاجلت مني اللمة السوداء
لا تعجلن فو الذي جعل الدجى ... من ليل طرتي البهيم ضياء
لو أنها يوم الحساب صحيفتي ... ما سر قلبي كونها بيضاء
فقلت له: قد أغرت على بيت نجم الدين يعقوب بن صابر المنجنيقي حتى أنك قد أخذت معظم لفظه وجميع معناه والوزن والروي، وهو قوله:
لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء
فحلف أنه لم يسمع هذا البيت إلا بعد عمله الأبيات، والله أعلم بذلك.
وهذا البيت لابن صابر من جملة أبيات وهي:
قالوا بياض الشيب نور ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياء
حتى سرت وخطاته في مفرقي ... فوددت أن تنفذ الظلماء
وغدوت أستبقي الشباب تعللا ... بخضابها فخضبتها سوداء
لو أن لحية من يشيب صحيفة ... لمعاده ما اختارها بيضاء
وهنا انتهى ما أردنا إيراده من كتاب يواقيت المواقيت للثعالبي في نوع المغايرة، مع زيادات فيه نبهنا على بعضها، وأغفلنا البعض.
ومن مشهور أمثلة المغايرة قول ابن الرومي في هجو الود، وهو الذي يقول فيه ابن سكرة الهاشمي:
للود عندي محل ... لأنه لا يمل