وكان الشريف معروفا بالشهامة وعلو الهمة، وكان ابن منير يهوى مملوكا له يسمى تتر، لا يفارقه في نوم ولا يقظة، حتى أنه متى اشتد غمه أو رمي بمحنة نظر إليه؛ فيزول ما به؛ فحلف أنه لا يرسل إلى الشريف هدية لا مع أعز الناس إليه، فجهز هدايا نفسية مع مملوكه تتر إلى الشريف وأخذ يقاسي مشاق فرقته، ويتجرع غصص بعاده. فلما وصل المملوك إلى الشريف توهم أنه من جملة الهدايا تعويضا من ذنب العبد الأسود فأمسكه. وطال الأمر على ابن منير فلم ير ما ينكي به الشريف، ويبعثه على إرسال مملوكه إلا إظهار النزوع عن التشيع، والدخول في مذهب السنة. وإن ذلك دليل أمر عظيم أخرجه من العقل حتى فارق مذهبه، فكتب إليه هذه القصيدة يذكر فيها وجده، ويقسم بالإيمان المحرجة، أنه إن لم يرد عليه مملوكه خرج عن مذهبه إلى التسنن، وفارق الحق إلى الباطل، ونزع عن الهدى إلى الضلال.
وهذه القصيدة بديعة في بابها، مع رقة ألفاظها وانسجاها، ولا بأس بإيرادها بجملتها هنا، على أننا لم نخرج بها عن نوع القسم من البديع، وهي:
عذبت طرفي السهر ... وأذبت قلبي بالفكر
ومزجت صفو مودتي ... من بعد بعدك بالكدر
ومنحت جثماني الضنى ... وكحلت جفني بالسهر
وجفوت صبا ما له ... عن حسن وجهك مصطبر
يا قلب ويحك كم تخا ... دع بالغرور وكم تغر
وإلام تكلف بالأغن من الظباء وبالأغر
ريم يفوق إن رما ... ك بسهم ناظره النظر
تركتك أعين تركها ... من بأسهن على خطر
ورمت فأصمت عن قسي لا يناط بها وتر
جرحتك جرحا لا يخي ... ط بالخيوط ولا الإبر
تلهو وتلعب بالعقو ... ل عيون أبناء الخزر
فكأنهن صوالج ... وكأنهن لها أكر
تخفي الهوى وتسره ... وخفي سرك قد ظهر
أفهل لوجدك من مدى ... يفضى إليه فينتظر
نفسي الفداء لشادن ... أنا من هواه على خطر
عذل العذول وما رآ ... هـ وحين عاينه عذر
قمر يزين ضوء صب ... ح جبينه ليل الشعر
وترى اللواحظ خده ... فيرى لهن به أثر
هو كالهلال ملثما ... والبدر حسنا إن سفر
ويلاه ما أحلاه في ... قلبي الشجي وما أمر
نومي المحرم بعده ... وربيع لذاتي صفر
بالمشعرين وبالصفا ... والبيت أقسم والحجر
وبمن سعى فيه وطا ... ف به ولبى واعتمر
لئن الشريف الموسوي ... ابن الشريف أبي مضر
أبدى الجحود ولم يرد إلي مملوكي تتر
واليت آل أمية الطه ... ر الميامين الغرر
وجحدت بيعة حيدر ... وعدلت عنه إلى عمر
وإذا جرى ذكر الصحا ... بة بين قوم واشتهر
قلت المقدم شيخ تي ... م ثم صاحبه عمر
ما سل قط ظبا على ... آل النبي ولا شهر
كلا ولا صد البتو ... ل عن التراث ولا زجر
وأثابها الحسنى ولا ... شق الكتاب ولا بقر
وبكيت عثمان الشهي ... د بكاء نسوان الحضر
وشرحت حسن صلاته ... جنح الظلام المعتكر
وقرأت من أوراق مص ... حفه البراءة والزمر
ورثيت طلحة والزبير بكل شعر مبتكر
وأزور قبرهما وأز ... جر من نهاني أو زجر
وأقول أم المؤمنين عقوقها إحدى الكبر
ركبت على جمل لتص ... بح من بنيها في زمر
وأتت لتصلح بين جيش المسلمين على غرر
فأتى أبو حسن وسل حسامه وسطا وكر
وأذاق إخوته الردى ... وبعير أمهم عقر
ما ضره لو كان كف وعف عنهم إذ قدر
وأقول أن أمامكم ... ولى بصفين وفر
وأقول إن أخطأ معا ... وية فما أخطأ القدر
هذا ولم يغدر معا ... وية ولا عمر مكر
بطل بسوءته يقا ... تل لا بصارم الذكر
وجنيت من رطب الخوا ... رج ما تتمر واختمر
وأقول ذنب الخارجي ... ن على علي مغتفر
لا ثائر بقتالهم ... في النهروان ولا أثر
والأشعري بما يؤو ... ل إليه أمرهما شعر
قال انصبوا لي منبرا ... فأنا البريء من الخطر
فعلا وقالت خلعت صا ... حبكم وأوجز واختصر
وأقول أن يزيد ما ... شرب الخمور ولا فجر