كأن لواء الصبح غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
وقوله من أخرى يمدح المعز، أولها:
ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط
بين السحاب وبين الريح ملحمة ... قعاقع وظبى في الجو تخترط
كأنه ساخط يرضى على عجل ... فما يدوم رضى منه ولا سخط
أهدى الربيع إلينا روضة أنفا ... كما تنفس عن كافوره السفط
غمائم في نواحي الجو عاكفة ... جعد تحدر عنها وابل سبط
كأن تهتانها في كل ناحية ... مد من البحر يعلو ثم ينهبط
والبرق يظهر في لألاء غرته ... قاض من المزن في أحكامه شطط
وللجديدين من طول ومن قصر ... حبلان منقبض عنا ومنبسط
والأرض تبسط في خد الثرى ورقا ... كما تنشر في حافاتها البسط
والريح تبعث أنفاسا معطرة ... مثل العبير بماء الورد يختلط
كأنما هي أخلاق المعز سرت ... لا شبهة للورى فيها ولا غلط
وقوله من أخرى فيه أيضاً، وهي من رقيق شعره، مطلعها:
قمن في مأتم على العشاق ... ولبسن الحداد في الأحداق
ومنحن الفراق رقة شكوا ... هن حتى عشقت يوم الفراق
وما أحسن قوله منها:
رب يوم لنا رقيق حواشي ال ... لهو حسنا جوال عقد النطاق
قد لبسناه وهو من نفحات ال ... مسك ردع الجيوب ردع التراقي
والأباريق كالظباء اللواتي ... أوجست نبأة الجياد العتاق
مصغيات إلى الغناء مطلا ... ت عليه كثيرة الإطراق
وهي شم الأنوف يشمخن كبرا ... ثم يرعفن بالدم المهراق
وما زال جانيا من رياض الافتنان، زهرات هذه المعاني والبيان، حتى قال وأبدع في المقال:
لا تسلني عن الليالي الخوالي ... وأجرني من الليالي البواقي
ضربت بيننا بأبعد مما ... بين راجي المعز والإملاق
هذا المخلص مما تتقاصر عند سماعه همم فرسان هذا الميدان، علما منهم بأن اللحاق به كاد أن لا يكون في حيز الإمكان. وقد تقرر أن أحسن التخلص ما كان في بيت واحد، يثب فيه الشاعر من شطره الأول إلى الثاني وثبة تدل على قدرته، وتمكنه، وانفساح خطوته في مقاصده وتفننه، ولعمري إن هذه الوثبة في هذا البيت مما لا تنفسح إلى مثلها خطى كل شاعر ولا يحدث نفسه بها إلا مصاقع القالة من غلب الشعراء المساعر.
ومثل ذلك قوله أيضاً بل هو أوفى منه لكونه من الغزل إلى المدح، وقد نبهو على أن أحسن التخلص ما كان كذلك.
وهو من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي الأندلسي، مطلعها:
فتكات طرفك أم سيوف أبيك ... وكؤوس خمر أم مراشف فيك
أجلاد مرهفة وفتك محاجر ... ما أنت راحمة ولا أهلوك
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده ... أكذا يجوز الحكم في ناديك
قد كان يدعوني خيالك طارقا ... حتى دعاني بالقنا داعيك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي ... وادي الكرى ألقاك أم واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو ... عثروا بطيف طارق ظنوك
وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة ... حتى إذا احتفل الهوى حجبوك
ولوى مقبلك اللثام وما دروا ... أن قد لثمت به وقبل فوك
فضعي القناع فقبل خدك ضرجت ... رايات يحيى بالدم المسفوك
ولنقتصر من مخالصه على هذا المقدار، فقد كدنا أن نفضي إلى الإملال بالإكثار.
ومن بديع حسن التخلص أيضاً قول أبي العلاء المعري:
ولو أن المطي لها عقول ... وجدك لم نشد بها عقالا
مواصلة بها رحلي كأني ... من الدنيا أريد بها انفصالا
سألن فقلت مقصدنا سعيد ... فكان اسم الأمير لهن فالا
وممن برز في هذا الميدان، فسبق إلى غاية الإحسان، أبو العباس محمد الأبيوردي، فمن بديع مخالصه قوله من قصيدة في سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس:
وقفنا بمستن الوداع وراعنا ... بحزوى غراب البين لأضمه وكر
فألف ما بين التبسم والبكا ... سلو ووجد عيل بينهما الصبر
فو الله ما أدري أثغرك أدمعي ... غداة تفرقنا أم الأدمع الثغر
تبرمت الأجفان بعدك بالكرى ... فلا تلتقي أو تلتقي ولها العذر
يغيب فلا يحلو لعيني منظر ... ويكثر مني نحوه النظر الشزر