قال الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى: في هذا البيت أراد أن يزيد على الشعراء في ذكر المطايا فأتى بأخزى الخزايا، ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها، وللمدوح أيضاً عصبة لا يجب أن يركبوا إليه. فهل في الأرض أفحش من هذا التسحب، وأوضع من هذا التبسط.
ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما يراه من الإحسان عميانا
وإذا انتقل الشاعر مما ابتدأ به الكلام إلى المدح ونحوه من غير ملائمة سمي اقتضابا، وافتطاما، وارتجالا، وهو مذهب العرب الجاهلية والمخضرمين الذين أدركوا الإسلام؛ كلبيد؛ وحسان، وكثير من الإسلاميين ومن المولدين يتبعونهم في ذلك، ويجرون على مذهبهم فيه.
كقول أبي تمام:
لو رأى الله أن في الشيب خيرا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
ثم قال بعده من غير ملائمة:
كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلقا من أبي سعيد رغيبا
وقوله من أخرى يمدح المعتصم بالله العباسي:
وقد طوى الشوق في أحشائنا بقر ... عين طوتهن في أحشائها الكلل
يخزي ركان النقا ما في مآزرها ... ويفضح الكحل في أجفانها الكحل
تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حيث تنتقل
طلت دماء هريقت عندهن كما ... طلت دماء هدايا مكة الهمل
هانت على كل شيء فهو يسفكها ... حتى المنازل والأحداج والإبل
ثم قال بعده من غير مناسبة، ولا تقريب:
بالقائم الثامن المستخلف أطأدت ... قواعد الملك ممتدا لها الطول
وهو في شعره كثير.
وكقول البحتري:
تمادت عقابيل الهوى وتطاولت ... لجاجة معتوب عليه وعاتب
إذا قلت قضيت الصبابة ردها ... خيال ملم من حبيب مجانب
يجود وقد ضن الألى شغفي بهم ... ويدنو وقد شطت ديار الحبائب
ترينيك أحلام النيام وبيننا ... مفاوز يستفرغن جهد الركائب
ثم قال بعده بلا مناسبة:
لبسنا من المعتز بالله نعمة ... هي الروض موليا بغزر السحائب
وقوله من أخرى في الفتح بن خاقان:
ويوم تثنت للوداع وسلمت ... بعينين موصول بلحظيهما السحر
توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر
ثم قال بعده:
لعمرك ما الدنيا بنا قصة الجدا ... إذا بقي الفتح بن خاقان والبحر
وهو في شعره: أكثر، حتى أن السليماني الشاعر عرض به في قوله:
يغتابني فإذا التفت أبان عن محض صحيح
وثبا كوثب البحتري ... من النسيب إلى المديح
وهو في شعر الشريف الرضي كثير جدا، ولا فائدة في إيراد شيء منه هنا، لأنه خارج عن البديع وما كان الغرض من إيراد هذه الجملة منه إلا بيانه بالتمثيل، والله أعلم.
تنبيه - ذهب أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي إلى أنه لم يقع في القرآن شيء من التخلص لما فيه من التكلف، وقال: إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم وقد أنكر عليه جماعة من العلماء ذلك، وغلطوه في قوله هذا، وقالوا: إن في القرآن من التخلصات العجيبة ما يحير العقول. فانظر إلى سورة الأعراف، كيف ذكر فيها الأنبياء، والقرون الماضية، والأمم السالفة؛ ثم ذكر موسى؛ إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه لأمته بقوله: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين) من صفاتهم كيت وكيت، وهم (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) ، وأخذ في صفاته الكريمة، وفضائله العظيمة. وفي سورية الكهف حكى قول ذي القرنين في السد (فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا) ، فتخلص منه إلى وصف حالهم بعد دكه الذين هو من أشراط الساعة، ثم بالنفخ في الصور، ثم ذكر الحشر، ووصف مآل الكفار والمؤمنين؛ ومثل ذلك في القرآن كثير، والله أعلم.
وقد طال الكلام في هذا النوع، فلنتخلص إلى إثبات أبيات البديعيات.
فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:
من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم