للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بينا ذوائب من يحب بكفه ... حتى تعلق لحية الممدوح

انتهى. وهذا ذم ظرافة لا تحقيق، فعلى الأول المعول.

وإذ ذكرنا هذه الجملة من محاسن المخالص، تعين علينا أن ننبه على ضدها، ليتحرز المبتدي، ويتيقظ المنتهي من سنة الغفلة عن الوقوع في مثلها.

فمن قبيح التخلص قول أبي نواس من قصيدة في الفضل بن يحيى:

سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا

فإنه ما زاد على أن يجعله قوادا له، ولهذا استحق به السخط من ممدوحه.

حدثت رابعة البرمكية قالت: كنت يوما وأنا وصيفة على رأس مولاي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، وبيدي مذبة أذب بها عنه، إذ استؤذن لمسلم بن الوليد الأنصاري فأذن له، فلما دخل أعظمه وأكرمه، واستنشده، ثم خلع عليه وأجازه وانصرف. فما قلت أنه جاز الستر حتى استؤذن لأبي نواس، فامتنع من الإذن له، حتى سأله بعض من كان في المجلس أن يأذن له ففعل على تكره منه، فلما دخل عليه ما علمت أنه رد عليه، ولا أمره بالجلوس، ولا رفع إليه رأسه. فلما طال عليه وقوفه قال: معي أبيات أفأنشدها؟ فقال: افعل، وهو في نهاية التكره له والتثقل منه.

فأنشده:

طرحتم من الترحال أمرا فغمنا ... ولو قد فعلتم صبح الموت بعضنا

فلما بلغ إلى قوله:

سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا

قطب في وجهه، وقال: امسك عليك لعنة الله، أعزب قبحك الله، وأمر بإخراجه محروما فأخرج، والتفت الفضل إلى أنس بن أبي شيخ فقال: ما رأيت مثل هذا الرجل، ولا أقل تمييزا لكلامه منه، فقال أنس: فإن اسمه كبير، فقال: عند من ويلك؟ هل هو إلا عند إسقاط مثله.

ويقال أن أبا نواس اعتذر عن ذلك وقال: ما أردت بالفضل في قولي (لعل الفضل يجمع بيننا) إلا معنى الإفضال لا الممدوح، وهو عذر غير واضح.

وتبعه المتنبي في معنى هذا المخلص وزاد عليه فجاء بالطامة الكبرى حيث قال:

عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا

فأتى بما لا يحتمل التأويل والاعتذار، ولا يقال معه عثار.

وممن وقع في حبائل هذا القبح لما رام حسن التخلص، الشيخ عبد الرحمن بن المهدي العقبي من قصيدة في الشيخ عبد الرحمن المرشدي يهنئه بتقلده الإمامة والخطابة والفتوى في آخر عام تسعة عشر وألف:

أنا لم أدر ما الصبابة لولا ... نظرة الريم من خلال الحجال

منية دونها المنية والآجال نيطت بأعين الآجال

لو رثت لي لألصقتني بما بين مجال القروط والأحجال

غير أن الهوى شديد محال ... يفتك الريم فيه بالرئبال

لذت من حربه بسلم فما زا ... د سوى تيه عزة ودلال

أشكلت قصتي وها أنا أعدد ... ت لها رأي موضح الإشكال

غير أن هذا أخف من ذاك على كل حال، على أن الكل قبيح.

والأصل في هذا المعنى لقيس بن ذريح حين طلق زوجته لبنى فتزوجت غيره، ثم ندم على طلاقها وكان مشغوفا بها، فشبب بها وما زال يشكو لوعة فراقها في أشعاره حتى رحمه ابن أبي عتيق، فسعى في طلاقها من زوجها وأعادها إلى قيس، فقال يمدحه ويشكره:

جزى الرحمن أحسن ما يجازي ... على الإحسان خيرا من صديق

وقد جربت إخواني جميعا ... فما ألفيت كابن أبي عتيق

سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق

وأطفأ لوعة كانت بقلبي ... أغصتني حرارتها بريقي

فلما سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس: يا حبيبي امسك عن مدحك هذا، فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا.

ومن قبيح المخالص قول المتنبي أيضاً:

غدا بك كل خلو مستهاما ... وأصبح كل مستور خليعا

أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبير أو ابن إبراهيم ريعا

فإن هذا المخلص جمع بين الثقل والبرودة وتعسف المعنى، ومعناه أنه علق انقضاء حبها على أمر مستحيل عادة، وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبير أو مستحيل ادعاء وهو خوف الممدوح. ومراده أن يقرر أن كلا من هذين الأمرين من المستحيلات.

وقوله أيضاً:

لا يجذبن ركابي نحوه أحد ... ما دمت حيا وما قلقن كيرانا

لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا

<<  <   >  >>