للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن لطيف ما يحكى في هذا الباب؛ ما ذكر أن أحمد بن أبي خالد عرض القصص يوماً بين أيدي المأمون فمر بقصة مكتوب عليها: فلان اليزيدي؛ فصحفه وقال: الثريدي. فضحك المأمون وقال يا غلام، ثريدة ضخمة لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً، فخجل أحمد وقال: والله ما أنا جائع يا أمير المؤمنين ولكن صاحب هذه الرقعة أحمق، وضع علي يائه ثلاث نقط كأثا في القدر. فقال المأمون: عد عن هذا فإن النقط شهود زور، والجوع اضطرك إلى ذكر الثريد. فلما أتى بالثريد احتشم أحمد من أكله، فقال المأمون: بحقي عليك إلا ما أكلت منه، فترك القصص ومال إلى الصحفة، فأكل قليلاً ثم دعا بالماء. فغسل يده منه ورجع إلى القصص، فمر بقصة عليها مكتوب: فلان الحمصي، فقرأ، الخبيصي، فضحك المأمون وقال: يا غلام، جام خبيص؛ فإن غذاء أبي العباس كان أبتر، فخجل وقال: يا أمير المؤمنين، صاحب هذه القصة أحمق من الأول، فتح الميم فصارت كأنها سنان. قال دع عنك، فلولا حمق هذا والأول مت جوعاً. فأتى عليك إلا ما ملت نحوه، فانحرف إليه وأكل منه، ثم غسل يديه وانصرف إلى القصص فاحترز في قراءتها، وتثبت في حروفها، فما حرف حرفاً حتى أتى على آخرها.

وقول أبي الحسن الأهوازي: من أحسن الاختبار أحسن الاختيار.

وقوله: من فعل ما شاء، لقي ما ساء.

ومثاله من النظم قول بعضهم:

يقو العدو ويصغي الصدي ... ق وشر من القائل القابل

وقول البحتري:

ولم يكن المغتر بالله إذا سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه

وقول أبي فراس بن حمدان:

من بحر جودك أغترف ... وبفضل علمك أعترف

وما ألطف قول البهاء زهير:

وأعجبني التجنيس بيني وبينه ... فلما تبدى اشنبا رحت أشيبا

ومنه قول أبي الطيب ونبه على التصحيف:

جرى الخلف إلا فيك أنك واحد ... وأنك ليث والملوك ذياب

وأنك إن قويست صحف قارئ ... ذياباً فلم يخطئ وقال ذباب

ومثل قول أبي نواس يهجو أبان اللاحقي:

صحف أمك إذا سم ... تك في المهد أبانا

قد علمنا ما أرادت ... لم ترد إلا أتانا

وما أحسن قول الصفي الحلي:

وذي مرح عارضته في طريقه ... فلما رآني قال امض لشانكا

فقلت له فال سعيد مبشر=بتصحيفه أني أمص لسانكا وقول الصفدي فيمن أهدى إليه سكراً:

جائني برك الذي جعل الغي ... ث له حاسداً وفيه تفكر

فاقتسمنا التصحيف لفظاً ومعنى ... لك مني شكر ولي منك سكر

تنبيه: قال المعري: أصل التصحيف، أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب.

قال المطرزي: والتصحيف أن يقرأ الشيء على خلاف ما أراده كاتبه أو على غير ما اصطلحوا عليه. انتهى.

واصطلح الأدباء على تقسيمه إلى قسمين: أحدهما التصحيف المنظم، وهو المذكور في البديعيات، وقد مر مثاله. والثاني التصحيف المضطرب.

قال الفخر الرازي في نهايته: وهو الذي لا بد فيه من فصل الحروف المتصلة، أو وصل الحروف المنقطعة، مثل قولهم: ست خصال، تفسيره: شيخ ضال.

قال السكاكي في المفتاح: وقف رجل على الحسن البصري فقال: اعتمر، أخرج، أبادر؟. فقال الحسن: كذبوا عليه، ما كان ذاك. أراد السائل: أعثمان أخرج أبا ذر؟.

وحكي أن المعتصم قال لطباخه: حاسب رشيد، فقال مقراض. أراد (?اشت رسيد) يعني: أدرك غداؤك؟ - بالفارسية - وأراد بالمقراض: لا.

وقال المتوكل يوماً ليحيى بن ماسويه الطبيب: بعت بيتي بقصرين - أي تعشيت فضرني - فقال له: أخر العدى - أي أخر الغداء-. وغاب عن الصاحب ندماؤه ليلة فقال: سمسم، أراد: بيت من بتم.

وكان أبو طلحة قسوة بن محمد من أولع الناس بالتصحيفات، فقال له أبو أحمد الكاتب يوماً: إن أخرجت لي مصحفاً أسألك عنه، وصلتك بمائة دينار، فقال: أرجو أن لا أقصر في إخراجه. فقال أبو أحمد: في تنور هيثم جمد. فوقف حمار أبي طلحة وتلبد طبعه فقال: إن رأى الشيخ أن يبلعني ريقي، ويمهلني يوماً فعل. قال: قد أمهلتك سنة. فحال الحول. ولم يقطع شعرة، فلم أقر بعجزه سأله أن يبينه له فقال له: هو اسمك، قسورة بن محمد، فازداد خجله وأسفه. وعلى ذكر أبي طلحة، فإنه كان كوسجا وفيه يقول اللحام:

ويك أبا طلحة ما تستحي ... بلغت ستين ولم تلتح

<<  <   >  >>