للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقلت لها أفكرت في الخمر مرة ... فاسكرني ذاك التوهم والفكر

ومن الغلو بغير أداة التقريب قول أبي نواس في الخمر:

فلما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع الأسرار قلت لها قفي

مخافة أن يسطو على شعاعها ... فيطلع ندماني على سري الخفي

قوله أيضاً:

وأخفت أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق

روي أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس فقال: ما استحييت من الله بقولك (وأخفت أهل الشرك - البيت) فقال له أبو نواس: وأنت ما استحييت من الله بقولك:

ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... يضيق عني وسيع الرأي من حيلي

فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي

فقال العتابي: قد علم الله, وعلمت أن مثل هذا ليس قول مثلك, ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا.

وقد استعمل أبو نواس معنى البيت ثانيا فقال:

حتى الذي في الرحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان

ومنه قوله أيضاً:

لا ينزل الليل حيث حلت ... فدهر شرابها نهار

وقول الآخر:

منعت مهابتك القلوب كلامها ... بالأمر تكرهه وإن لم تعلم

وقول النظام:

نظرت إليه نظرة فتحيرت ... دقائق وهمي في جليل صفاته

فأومى إليه الوهم أني أحبه ... فأثر ذاك الوهم في وجناته

وقوله أيضا:

حركات الضمير تؤثر في الخد ... ويدميه وهم لحظ العيون

رق حتى لو لامسته أذابت ... هـ بإيمائها يد المكنون

وقول أبي العتاهية في فرس للرشيد. حدث ابن الأعرابي قال: أجرى هارون الرشيد الخيل فجاء فرس يقال له المشمر سابقا, وكان الرشيد معجبا بذلك الفرس, فأمر الشعراء أن يقولوا فيه فبدرهم أبو العتاهية فقال:

جاء المشمر والأفراس يقدمها ... عفوا على رسله منها وما انبهرا

وخلف الريح حسرى وهي جامدة ... ومر يختطف الأبصار والنظرا

قال: فأجزل وصلته, وما جسر أحد بعد أبي العتاهية أن يقول شيئا.

وقول الآخر في فرس أيضا:

كم سابح أعددته فوجدته ... عند الكريهة وهو نسر طائر

لم يرم قط بطرفه في غاية ... إلا وسابقه إليها الحافر

وقول ابن حجاج في مرثية فرس له:

قال له البرق وقالت له الريح ... جميعا وهما ما هما

أأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما

هذا ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما

وقول ابن خفاجة الأندلسي:

وأبلق خوار العنان مطهم ... طويل الشوى والساق أقود أتلعا

جرى وجرى البرق اليماني عشية ... فأبطأ عنه البرق عجزا وأسرعا

وحسب الأعادي أن يزجروا به ... مغيرا غربا صبح القوم أبقعا

ومعنى البيت الأخير في غاية الحسن.

وقول الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله:

وأغر تبري الإهاب مورد ... سبط الأديم محجل ببياض

وأخشى عليه أن يصاب بأسهمي ... لما يسابها إلى الأغراض

وقوله أيضا:

وأدهم يقق التحجيل ذي مرح ... يميس من عجبه كالشارب الثمل

مضمر مشرف الأذنين تحسبه ... موكلا باستراق السمع عن زحل

ركبت منه مطاليلٍ تسير به ... كواكب تلحق المحمول بالحمل

إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرت بهاديه وانحطت عن الكفل

وقول الشيخ صلاح الدين الصفدي:

يا حسنه من أشقر قصرت ... عنه بروق الجو في الركض

لا تستطيع الشمس من جريه ... ترسمه ظلا على الأرض

فهذه الأمثلة كلها من نوع الغلو الذي لم يؤت فيه بأداة التقريب, ومنها البديع المستحسن, والمقبول غير المستهجن كما ترى, فظهر لك أن حسن الغلو غير مقصور على ما قرب من الإمكان بأداة التقريب كما زعم ابن حجة في شرح بديعيته.

ومن الغريب أن ابن حجة عد من أدوات التقريب (لو) كما مر ببيانه, ثم قال: ومن الغلو بغير أداة التقريب قول بعضهم:

قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به

وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه

قال: ومثل هذا لا يقبله العقل, ولا عليه رونق القبول. انتهى. وقد ترى أن الغلو في هذين البيتين كليهما مقرون (بلو) فهل هذا إلا تناقض؟.

<<  <   >  >>