للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما الغلو المردود القبيح الذي يجب اجتنابه, ويهجر جنابه, فهو ما آل بصاحبه إلى الكفر والاستخفاف بقدرة الله تعالى, والمدح الذي لا يليق إلا بجنابه عز وجل, سواء قرن بشيء من أدوات التقريب أم لا.

كقول ابن دريد في مقصورته يخاطب الدهر:

ما رست من لو هوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا

يقال: أنه أصابه فالج بطل له من محزمه إلى قدمه, فكان إذا دخل عليه الداخل صاح وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه. قال تلميذه أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي: فكنت أقول في نفسي أن الله عز وجل عاقبه لقوله المذكور, فكان يصيح لذلك صياح من يمشي عليه, أو يشك بالمسال؛ أعاذنا الله من ذلك.

ويقرب من ذلك ما حكي أن الشيخ عمر بن الفارض لما نظم قوله:

وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختباري ما كان فيه رضاكا

ابتلي بحصر البول, حتى أنه صار يأتي للصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.

ومن غلو ابن دريد القبيح في مقصورته هذه قوله أيضاً في ممدوحه:

ولو حمى المقدار عنه مهجة ... لرامها أو يستبيح ما حمى

تغدو المنايا طائعات أمره ... ترضى الذي يرضى وتأبى ما أبى

وقول أبي العتاهية:

فإذا أضرم حربا كان في ... مهج القوم شريكا للقدر

وقول علي بن جبلة المعروف بالعكوك:

أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر في حال إلى حال

وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال

وبهذين البيتين استحل المأمون دم الشاعر المذكور.

ذكروا أن المأمون لما بلغه قول علي بن جبلة في أبي دلف:

كل من في الأرض من عرب ... بين باديه ومحتضره

مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره

استشاط من ذلك وغضب غضباً شديداً وقال: ويلي على ابن الفاعلة, يزعم أنا لا نعرف مكرمة إلا مستعارة من أبي دلف وقال: اطلبوه حيث ما كان, وأتوني به. فطلبوه ولم يقدروا عليه, لأنه كان مقيما بالجبل. فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة الفراتية, حتى توسط الشامات فظفروا به وأخذوه, وحمل مقيدا إلى المأمون. فلما صار بين يديه قال: يابن اللخناء أنت القائل في قصيدتك للقاسم بن عيسى - وهو أبو دلف - (كل من في الأرض من عرب) وأنشد البيتين, جعلتنا ممن يستعير المكارم منه يوم الافتخار؟ قال: يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاس بكم, لأن الله اختصكم لنفسه على عباده, وآتاكم الكتاب والحكم وآتاكم ملكا عظيما. وإنما ذهبت في قولي إلى أقران وأشكال القاسم بن عيس من الناس. فقال: والله ما أبقيت أحدا, ولقد أدخلتنا في الكل, وما استحل دمك بكلمتك هذه, ولكن استحله بكفرك في شعرك, حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله وجعلت معه ملكاً قادراً, وهو (أنت الذي تنزل الأيام منزلها) وأنشد البيتين.

ثم قال: أخرجوا لسانه من قفاه, فمات, وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد.

والشعراء المشهورون بالاستكثار من الغلو المردود والقبيح: أبو نواس وأبو الطيب المتنبي, وابن هاني الأندلسي وهو أشهرهم بذلك, وأبو العلاء المعري, والمتأخرين ابن النبيه.

فمن غلو أبي نواس القبيح قوله يمدح الفضل بن العباس:

يداه في الأرض والسماء فما ... تجوز قطريه كف مخلوق

وقوله في الرشيد:

فلا يتعذرن عليك عفو ... وسعت به جميع العالمينا

وهذا إنما هو عفو الله سبحانه لا عفو الرشيد.

وقوله فيه أيضاً:

يا ناق لا تسأمي أو تبلغي ملكا ... تقبيل راحته والركن سيان

وقوله في الغزل:

متتايه بجماله صلف ... لا يستطاع كلامه تيها

للحسن في وجناته بدع ... ما إن ميل الدرس قاريها

لو كانت الأشياء تعقله ... أجللته إجلال باريها

وقال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر عند ذكره ما نعي على أبي الطيب المتنبي من معائب شعره ومقابحه: منها الإفصاح عن ضعف العقيدة, ورقة الدين. على أن الديانة ليست عيارا على الشعر, ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشعر, ولكن الإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به, قولا وفعلا ونظما ونثرا, ومن استهان بأمره, ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى, وتعرض لمقته في وقته.

<<  <   >  >>