فمنه ما حكاه ابن قتيبة قال: تمازح معاوية والأحنف - فما رئي مازحان أوقر منهما - قال معاوية: يا أبا بحر ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين.
وإنما أشار معاوية إلى ما رمي به بنو تميم من النهم وحب الأكل في قول القائل:
إذا ما مات ميت من تميم ... وسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف بالآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
وأراد الشاعر بالشيء الملفف في البجاد: وطب اللبن, والبجاد ككتاب: كساء مخطط. وأشار الأحنف إلى ما كانت تعير به قريش من أكل السخينة قبل الإسلام, لأن أكثر زمانها كان زمان قحط ومحل, والسخينة: ماء يسخن بالنار ويذر عليه دقيق, وغلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة.
قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغلب الغلاب
ومثل ذلك ما روي أن عبد الله بن ثعلبة المحاربي دخل على عبد الملك أبن يزيد الهلالي - وهو يومئذ والي أرمينية - فقال له: ماذا لقينا البارحة من شيوخ محارب؟ منعونا النوم بضوضاتهم ولغطهم. فقال عبد الله بن ثعلبة: أنهم - أصلح الله الأمير - أضلوا البارحة برقعا فكانوا يطلبونه.
أراد عبد الملك قول الشاعر:
تكش بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد عبد الله قول القائل:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن يزيد برقع وجلال
وكان سنان بن أحمر النميري يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري وهو على بغلة له, فتقدمت البغلة على فرس الأمير فقال: أغضض بغلتك يا سنان, فقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير, فضحك الأمير وقال: قاتلك الله, ما أردت ذلك, قال: ولا أنا.
وإنما أراد ابن هبيرة قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وأراد سنان قول الأخطل:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
وكانت فزارة تعير بإتيان الإبل, ولذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا ويخاطب يزيد بن عبد الملك حين ولاه العراق:
أمير المؤمنين وأنت بر ... تقي لست بالجشع الحريص
أأطعمت العراق ورافديه ... فزاريا أحذ يد القميص
ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص
الرافدان: دجلة والفرات. وأخذ يد القميص: كناية عن السرقة والخيانة. وتفنق: تنعم وسمن, يقال: جارية فنق, أي سمينة. والبيت الآخر تلميح إلى إتيان الإبل الذي كانوا يعيرون به.
وعلى هذه الأبيات روى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الأعلى قال: كنا نتغدى مع الأمير عمر بن هبيرة فاحضر طباخه جام خبيص, فكرهه للبيت السابق في هذه الأبيات, إلا أن جلده أدكه فقال: ضعه يا غلام, قاتل الله الفرزدق, لقد جعلني أرى الخبيص فاستحي منه.
قال المبرد: وقد يسير البيت في الواحد فيرى أثره عليه أبدا, كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة:
فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا
فكسر حلية السيف ... وصغها لك خلخالا
فكان عبد الله إذا تقلد السيف فرأى من يرمقه بأن أثره عليه وظهر الخجل منه.
ومثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال: والله لقد قلت في بني تغلب بيتا لو طعنوا بعده الرماح في أستأهم ما حكوها وهو:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وحكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده رجال: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر ودوا أنهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال أسماء بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين, قال: وما هو؟ قال: قول الحارث بن ظالم المري:
وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا
فو الله أني لا لبس العمامة الصيفية فيخيل لي أن شعر فقاي قد بدا منها.
وقال هاني بن قبيصة النميري: نحن يا أمير المؤمنين, قال: وما هو؟ قال: قول جرير:
فعض الطرف أنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كان النميري إذا قيل ممن أنت, يقول: من نمير, فصار يقول بعد هذا البيت من عامر بن صعصعة.