وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول: والله أن التنحنح والسعال ليأخذاني وأنا في الخلا فأردهما حياء من قول القائل:
إذا ذات دل كلمته لحاجة ... وهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
رجع إلى أمثلة التلميح إلى الشعر.
ومنه ما حكي أن تميميا قال لشريك النميري: ما أحب إلي من البازي, فقال شريك: خاصة إذا كان يصيد القطا.
أشار التميمي إلى قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ... أتيح من السماء له أنصبابا
وأشار شريك إلى قول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... لو سلكت طرق المكارم ضلت
ومثله ما حكي أن تميميا نزل بفزاري فقال له: قلوصك يا أخا تميم لا تنفر القطا, فقال: أنها مكتوبة, أشار الفزاري إلى بيت الطرماح المذكور, وأشار التميمي إلى قول الأخطل المقدم ذكره.
(ومثله) ما يحكى أن محمد بن عقال المجاشعي دخل على يزيد بن مزيد الشيباني وعنده سيوف تعرض عليه, فرفع سيفا منها إلى يد محمد فقال: كيف ترى هذا السيف؟ فقال: نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف.
أراد يزيد قول جرير في الفرزدق:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك وقالوا محدث غير صارم
وأراد محمد قول مروان بن أبي حفصة:
لقد أفسدت شيبان بكر بن وائل ... من التمر ما لو أصلحته لمارها
ولبيتي جرير المذكورين قصة يأتي ذكرها في نوع المواردة إنشاء الله تعالى.
وقد غلط السكاكس على جلالة قدره في تفسير قوله (ولم تضرب بسيف ابن ظالم) فقال: أن الفرزدق كان عرض عليه سيف غير صالح للضرب فقال: بل أضرب بسيف أبي رغوان مجاشع, يعني سيفه, وكأنه قال: لا يستعمل ذلك السيف إلا ظالم وابن ظالم, فلما نبا سيفه وبلغ جرير ذلك قال البيتين, وأشار بقوله: ابن ظالم إلى ذلك.
وتبعه على هذا جماعة من أهل الفضل. ولم يرد جرير ذلك قط, مع أن معنى البيت لا يستقيم على هذا التفسير كما لا يخفى. وإنما أراد جرير بابن ظالم, الحارث بن ظالم المري وكان فاتكاً, فتك بخالد بن جعفر بن كلاب وهو إذ ذاك نازل على النعمان بن المنذر, وإنما قال جرير ذلك لان ابن ظالم المذكور من قومه, وهو مشهور بالفتك فيهم, فقال: ضربت بسيف جدك فينا ولم يقطع, ولو ضربت بسيف ابن ظالم الذي هو من قومي لم ينب, ولكنك لم تضرب به. هذا معنى البيت المقصود لا ما ذكره السكاكي وغيره فأعلم.
ومن لطيف التلميح أيضاً ما روي, أن الفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر, فلما لقيه سأله عنها فقال: كانت قليلة الدم, فضحك الفضل وقال: مهلا يا أبا فلان.
أراد الشاعر قول القائل:
إذا ذبح الضبي بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضبي لحما ولا دما
وروى ابن الأعرابي في الآمالي قال: رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي على أصبع بن عياش وضحا فقال: ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح؟ قال سلح النعامة يابن أخي.
أراد قول جرير:
فضح العشيرة يوم يسلح إنما ... سلح النعامة شبه بن عقال
وكان شبة قد برز يوم الطوانة مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم, فحمل عليه الرومي فنكص وأحدث. فبلغ ذلك جريرا باليمامة فقال فيه ذلك.
ورأى الفرزدق مخنثا يحمل قماشة كأنه متحول من دار إلى دار فقال: إلى أين راحت عمتنا؟ فقال: قد نفاها الأغر يا أبا فراس.
يريد قول جرير في الفرزدق:
نفاك الأغر ابن عبد العزيز ... بحقك تنفى عن المسجد
وإنما قال جرير ذلك لأن الفرزدق ورد المدينة والأمير عليها عمر بن عبد العزيز, فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير وأعطاه, وقعد عنه عبد الله بن عمرو بن عثمان وقصر به, فمدح الفرزدق حمزة.
وهجا عبد الله فقال:
ما أنتم من هاشم في سرها ... فأذهب إليك ولا بني العوام
قوم لهم شرف البطاح وأنتم ... وضر البلاط وموطئ الأقدام
فلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز فأمره أن يخرج من المدينة, وقال له: إن وجدتك بها بعد ثلاث عاقبتك. فقال الفرزدق: ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
وأنشد:
توعدني وأمهلني ثلاثاً ... كما وعدت لمهلكها ثمود
فبلغ ذلك جريرا فقال يهجوه: