فغضب معاوية وقال: أما أنه لم يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب, ولا هو ممن يتسور على جاراته, ولا يتوثب على كنائنه بعد هجعة الناس - وكان عبد الرحمن يتهم في امرأة أخيه - فخجل عبد الرحمن وقال: يا أمير المؤمنين ما حملك على عزلك ابن عمك؟ ألجناية أوجبت سخطا أم لرأي رأيته وتدبير استصلحته؟ فقال: بل لرأي رأيته وتدبير استصوبته, قال: فلا بأس بذلك, وخرج من عنده فلقي أخاه مروان فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية فاستشاط غيظا وقال لعبد الرحمن: قبحك الله ما أضعفك عرضت للرجل بما أغضبته, حتى إذا انتصر منك أحجمت عنه. ثم لبس حلته وركب فرسه وتقلد سيفه ودخل على معاوية, فقال له معاوية حين رآه والغضب يتبين في وجهه: مرحبا بأبي عبد الملك, لقد زرتنا عند اشتياق إليك منا, قال: لا والله ما زرتك لذلك, ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزاء, لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص, والصهر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم, والخلافة فيهم, فوصلوكم يا بني حرب, وشرفوكم, وولوكم فما عزلوكم, حتى إذا وليتم أبيتم إلا سوء صنيعة, وقبح قطيعة, فرويدا رويدا, قد بلغ بنو الحكم وبنو أبيه نيفا وعشرين, وإنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين ويعلم امرؤ أين يكون حينئذ منهم, ثم هم للجزاء بالحسنى والسوأى بالمرصاد. فقال له معاوية: عزلتك لثلاث, لو لم يكن إلا واحدة منهن لأوجبت عزلك: إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تشتفي منه.
والثانية, كراهيتك لأمر زياد.
والثالثة, أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها. فقال مروان: أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني, ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه.
وأما كراهتي لأمر زياد, فإن سائر بني أمية كرهوه, وجعل الله لنا في ذلك الكره خيرا.
وأما استعداء رملة على عمرو, فو الله أنه ليأتي علي سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا - يعرض له بأن رملة إنما تستعدي عليه بطلب النكاح - فقال له معاوية: يا بن الوزغ, لست هناك, فقال مروان: هو ذاك. ألآن والله إني أبو عشرة, وأخو عشرة, وعم عشرة, وقد كاد ولدي يكملون العدة, ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني.
فانخزل معاوية ثم قال:
فإن أك في شراركم قليلا ... فإني في خياركم كثير.
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلاة نزور
فلما فرغ مروان من كلامه خضع له معاوية وقال: لك العتبى وأنا رادك إلى عملك, فوثب مروان وقال له: كلا وعيشك, لا رأيتني عائدا إليه أبدا, وخرج.
فقال الأحنف بن قيس لمعاوية - وكان حاضرا -: ما رأيت قد لك سقطة مثلها, ما هذا الخضوع لمروان؟ وأي شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وأي شيء تخشاه منهم؟. فقال أدن مني حتى أخبرك بذلك. فدنا منه فقال له: أن الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة لما زفت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو تولى نقلها, فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحد النظر إليه, فلما خرج من عنده قيل له: يا رسول الله لقد أحددت النظر إلى الحكم؟ فقال: ابن المخزومية ذلك الرجل إذا بلغ ولده ثلاثين, أو قال: أربعين, ملكوا الأمر بعدي, فوالله لقد تلقاها مروان من عين صافية. فقال له الأحنف: لا يسمعن هذا منك أحد, فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك, وأن يقض الله أمرا يكن, فقال معاوية: فاكتمها علي يا أبا عمرو إذن, فقد لعمري صدقت ونصحت.
ومن لطيف التلميح المذكور أيضاً, ما حكي أنه دخل عبد الحميد بن سعيد بن مسلم الباهلي ومعه ابنه الأفوه - وكان مبغما - فتخلى الناس حتى بلغ إلى عمر بن فرح المذحجي, فلما قرب منه قال له: من هذا؟ قال: ابني أصلحك الله, وهل يخفى القمر؟ فقال: إن كان كذلك فرفع عنه حاشية الأزرار.
أراد قول بشار بن برد:
إذا أعيتك نسبة باهلي ... فرفع عنه حاشية الأزرار
على أستاه سادتهم كتاب ... موالي عامر وسما بنار