فعجبوا من ذكاء الشريف فهمه لما عناه.
ومن لطيف التلميح بهذا البيت أيضاً ما حكاه صاحب الحدائق: أن الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ في كتابه - قلائد العقيان - فقال فيه: رمد عين الدين, وكمد نفوس المهتدين, أشتهر سخفا وجنونا, وهجر مفروضا ومسنونا, ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة, ولا أظهر مخيلة إنابة, ولا استنجى من حدث, ولا شجى فؤاده مواراة في حدث, ولا قر بباريه ومصوره, ولا فر عن تباريه في ميدان تهوره. الإساءة إليه أجدى من الإحسان, والبهيمة لديه أهدى من الإنسان, إلى غير ذلك. فبلغ ابن الصائغ انتقاصه له, فمر يوما على الفتح وهو جالس في جماعة فسلم على القوم, وضرب على كتف الفتح وقال له: شهادة يا فتح, ومضى, فلم يدر أحد من القوم ما أراد بذلك إلا الفتح, فأنه تغير لونه, فقيل له: ما قال لك؟ فقال: إني وصفته بكتابي بما تعملون, فما بلغت بذلك عشر ما بلغ هو مني بهذه الكلمة.
فإنه يشير إلى قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ويقرب من هذا التلميح الدقيق ما حكاه أبو الوليد إسماعيل الشقندي - نسبة إلى شقندة, بالشين المعجمة, قرية مطلة على نهر قرطبة, مجاورة لها من جهة الجنوب - قال: كنت يوما بين يدي الفقيه الرئيس أبي بكر بن زهر, فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خرسان - وكان ابن زهر يكرمه - فقلت له: ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم؟ فقال: كبرت, فلم أفهم مقصده, واستبردت ما أتى به, وفهم عني أبو بكر بن زهر أني نظرته نظرة المستبرد المنكر فقال لي: أقرأت شعر المتنبي؟ قلت: نعم وحفظت جميعه, قال: فعلى نفسك إذن فلتنكر, وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم.
فذكرني بقول المتنبي:
كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
فاعتذرت إلى الخرساني وقلت له: والله قد كبرت في عيني بعدما صغرت نفسي عندي حين لم أفهم نيل مقصدك.
ومن ذلك أيضاً قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بن حمدان بسبب المتنبي, فإنهما كانا من شعرائه ومداحه فجرى ذكر المتنبي يوما بحضرة سيف الدولة, فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه وعلى شعره, فقال له السري: أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لا عارضها, ويتحقق بذلك أنه أركب في غير سرجه. فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدة القافية التي مطلعها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق منه وما بقي
قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها فلم أجدها من مختارات أبي الطيب, ولكني رأيته يقول فيها:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق
فعلمت أن سيف الدولة إنما أشار إلى هذا البيت فأعرضت عن معارضته.
ومن ذلك أيضاً ما حكاه الشيخ الفاضل الأديب عبد علي بن ناصر الشهير بابن رحمة الحويزي في كتابه - المعول في شرح شواهد المطول -: أنه جرى بين السيّد علي بن بركات الحسني والشريف زيد بن محسن أمير مكة المشرفة عتاب طال به الخطاب, وكان السيّد علي بن بركات شيخا عالي السن, والشريف زيد شابا.
فأنشد السيّد علي قول الطفرائي:
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
فغضب الشريف زيد وقال: لم ترد هذا, وإنما أردت ما قبله وهو:
ما كنت أحسب أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد السفل
انتهى بالمعنى.
ومن الطريف التلميح أيضاً ما يحكى أن رجلا قعد على جسر بغداد, فأقبلت امرأة بارعة الجمال من ناحية الرصافة إلى جانب الغربي, فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم, فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري, وما وقفا بل سارا مشرقا ومغربا. قال الرجل: فتبعت المرأة وقلت لها: لئن لم تخبريني بما أراد بابن الجهم, وما أردت بأبي العلاء المعري فضحكت.
فقالت: أراد بابن الجهم قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا بأبي العلاء قوله:
فيا دارها بالخيف أن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال