للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالأول وهو الواحد حقيقة, إما حسي وطرفاه حسيان كالحمرة, والخفاء وطيب الرائحة, والحلاوة, ولين الملمس؛ في تشبيه الخد بالورد, والصوت الضعيف بالهمس, والنكهة بالعنبر, والريق بالعسل, والجلد الناعم بالحرير, كما سبق. وإما عقلي وطرفاه حسيان, كمطلق حصول النجاة في تشبيه أهل البيت عليهم السلام بسفينة نوح عليه السلام في حديث أبي ذر, مثل (أهل بيتي مثل سفينة نوح, من ركبها نجا, ومن تخلف عنها هلك) .

ومطلق الاهتداء في قول الحماسي:

هينون لينون أيسار ذوو يسر ... سواس مكرمة أبناء أيسار

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري

شبههم بالنجوم في مطلق حصول الاهتداء. وأما عقلي وطرفاه عقليان كالعراء عن الفائدة في تشبيه الشيء العديم النفع بعدمه, وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة.

ومنه قول الأرجاني:

أخلاقه نكت في المجد أيسرها ... لطف يؤلف بين الماء والنار

وإما عقلي والمشبه عقلي, والمشبه محسوس, كالهداية في تشبيه العلم بالنور, وتحصيل الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاس.

ومنه قول أبي الفراس:

كأن ثباته للقلب قلب ... وهيبته جناح للجناح

وإما عقلي والمشبه حسي, والمشبه به عقلي, كاستطابة النفس في تشبيه العطر بخلق كريم.

ومنه قول الصاحب بن عباد وقد أهدى إلى القاضي أبي الحسين عطرا:

يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه

أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأننا أهدي له أخلاقه

وقول ابن المعتز:

معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل در ما لمنظومها سلك

وقد خفيت من لطفها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبها الشك

تنبيه: اعلم أن الوجه الحسي يرجع إلى العقلي لأنه مشترك بين الطرفين, والمشترك كلي, فوجه الشبه كلي والكلي لا يدرك بالحس بل بالعقل, فوجه الشبه لا يكون محسوسا البتة, وإنما سمي في نحو تشبيه الخد بالورد حسيا لأنه منتزع من أمرين محسوسين, وفي التسمية تسامح, وقول صاحب الإيضاح: إن المراد بكون وجه حسيا, كون أفراده مدركة بالحس لا يدفع التسامح.

الثاني وهو كون وجه الشبه واحدا حكما, والمراد به أن يكون غير واحد, لكنه بمنزلة الواحد لكونه مركبا من أمرين أو أمور, بمعنى أن يقصد إلى عدة أشياء مختلفة أو عدة أوصاف لشيء واحد, فتنتزع منها هيئة تجعل وجه تشبيه, وهو إما حسي.

كقول أبي بركات:

ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها ... كباسط كفيه ليقطف عنقودا

شبه الهيئة الحاصلة من النجوم المجتمعة على هيئة الباسط كفه لقبض نجوم كهيئة العنقود. فوجه الشبه وهو الهيئة المخصوصة منتزع في المشبه من هيئة الجوزاء, وهيئة النجوم التي هي يدها, وهيئة الثريا, وكونها فوق الجوزاء قريبة من يدها. وفي المشبه به من هيئة القاطف وبسط يده, وهيئة العنقود. وكونه القاطف قريبا من يده. فهو أمر منتزع من عدة أمور.

وقول الآخر:

كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع

دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوى من فروج الأصابع

شبه الهيئة الحاصلة من شعاع الشمس في أول طلوعها عند هبوب النسيم الذي قلما يفقد في الغدوات, لأنها حينئذ تثقب بإشراقها الكوى والفرج, بخلاف ما إذا أخذت في الاستواء على ورق الأشجار المضطربة بسبب تموج الهواء, بالهيئة الحاصلة من الدنانير المجلوة في كف الأشل, حين يهم بالقبض عليها, فتمنعه حركته الغير الإرادية, فتهوي الدنانير من فروج الأصابع متناثرة على غير نظام. فوجه الشبه -وهو أصول أشياء مستديرة لها صفرة ولمعان, تتناثر لا على نظام عقيب حركة مضطربة, هيئة مدركة بالحس- من عدة أمور كما ترى.

وقول الآخر, وهو من بديع هذا النوع:

كانت سراج أناس يهتدون بها ... في سالف الدهر قبل النار والنور

تهتز في الكف من ضعف ومن هرم ... كأنها قبس في كف مقرور

شبه الهيئة الحاصلة من حركة الخمر وانعدامها, ومنع الكأس إياها عنه من شروق أشعتها, بالهيئة الحاصلة من حركة النار الضعيفة في كف من أصابه البرد الشديد, وهو يريد أن يصونها من الإطفاء. ويحتمل أن يؤخذ مجرد الحركة فيهما مع الإشراق, فلا يكون فيه دقة.

ومنه قول الوزير المهلبي:

<<  <   >  >>