للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب

كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب

شبه الهيئة الحاصلة من استدارة الشمس مع الإشراق, والحركة السريعة المتصلة, وما يحصل في الإشراق بسبب تلك الحركة من التموج والاضطراب, حتى يرى الشعاع كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة, ثم يبدو له فيرجع من الانبساط إلى الانقباض, كأنه يجمع من الجوانب إلى الوسط, بالهيئة الحاصلة من البوتقة إذا حميت, وذاب فيها الذهب, وتشكل بشكلها في الاستدارة, وأخذ يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة, كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها, لما في طبعه من النوم, ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض, لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحق. ولذلك لا يقع فيه غليان على الضفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء.

ومن لطيف هذا النوع قول سعيد بن حميد:

حفت بسرو كالقيان تحلفت ... خضر الحرير على قوام معتدل

فكأنها والريح جاء يميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل

فان فيه تفصيلا دقيقا, وذلك انه راعى حركة التهيؤ للدنو والعناق, وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق. وأدى ما يكون في الحركة الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة, لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركة من يهم بالدنو, لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من إزعاج الرجاء.

وما أحسن قول الجدلي:

لدى اقحوانات حففن بناصع ... من الورد مخضل الغصون نضيد

تميلها أيدي الصبا فكأنها ... ثغور هوت شوقا لعض خدود

وإما عقلي كما في قوله تعالى "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها" أي لم يعملوا بها "كمثل الحمار يحمل أسفارا" فإن وجه الشبه وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه, أمر عقلي منتزع من عدة أمور, لأنه روعي من الحمار فعل مخصوص هو الحمل, وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو الأسفار التي هي أوعية العلوم, وإن الحمار جاهل بما فيها, وكذا في جانب المشبه.

تنبيه: -قد يقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها, فيقع الخطأ لكونه أمرا منتزعا من جميعها.

كقوله:

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت

فانه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه لا حاجة إليه ولكن التأمل بظهر أن غرض الشاعر في تشبيهه أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس, وذلك يتوقف على البيت كله.

فان قيل: هذا يقتضي أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة كقولنا: زيد يصفو ويكدر, تشبيها واحدا, لأن الاقتصار على أحد الخبرين يبطل الغرض من الكلام, لأن الغرض منه وصف المخبر عنه بأنه يجمع بين الصفتين, وإن إحداهما لا تدوم.

قلت: الفرق بينهما أن الغرض في البيت أن يثبت ابتداء مطمعا متصلا بانتهاء مؤيس كما مر, وكون الشيء ابتداء الآخر زائد على الجمع بينهما, وليس في قولنا: يصفو ويكدر, أكثر من الجمع بين الصفتين, ونظير البيت قولنا: يصفو ثم يكدر, لإفادة ثم, الترتيب المقتضي ربط الوضعين بالآخر.

وقد ظهر بما ذكرنا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركب في مثل ما ذكرنا بأمرين: أحدهما لا يجب فيها ترتيب, والثاني: إنه إذا حذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيد قبل الحذف, فإذا قلنا: زيد كالأسد بأسا, والبحر جودا, والسيف مضاء, لا يجب لهذه التشبيهات نسق مخصوص, بل لو قدم التشبيه بالسيف جاز, ولو أسقط واحد من الثلاثة لم يتغير حال غيره في إفادة معناه. قاله الخطيب في الإيضاح.

الثالث -وهو أن يكون وجه الشبه أمورا متعددة, إما حسي كلها كاللون والطعم والرائحة في تشبيه فاكهة بأخرى.

ومنه قول المطراني:

مهفهفة لها نصف قضيب ... كخوط البان في نصف رداح

حكت لونا ولينا واعتدالا ... ولحظا قاتلا سمر الرماح

وإما عقلي كله, كحدة النظر, وكمال الحذر, وإخفاء السفاد في تشبيه طائر بالغراب.

ومنه قول المعري:

والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر

وإنما جعلناه في هذا النوع ولم نجعله من الواحد حكما, لأن كلا من الأمرين العقليين المذكورين يستقل وجها للشبه.

<<  <   >  >>