أتتني بالأمس أبياته ... تعلل روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشراب ... وظل الأمان ونيل الأماني
وعهد الصبا ونسيم الصبا ... وصفو الدنان ورجع القيان
وأما تقسيمه باعتبار وجهه فهو: إما تمثيل, وإما مجمل أو مفصل, وإما قريب أو بعيد.
فالتمثيل: ما وجهه وصف منتزع من متعدد أمرين, أو أمور, كما مر من تشبيه الثريا, والتشبيه في بيت بشار, وتشبيه الشمس بالبوتقة المحماة, وتشبيهها بالمرآة في كف الأشل, إلى غير ذلك, وغير التمثيل ما كان بخلاف ذلك كما سبق في الأمثلة المذكورة.
كقول أبي بكر الخالدي:
يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا
وشبه الغصن لينا ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا
زارنا حتى إذا ما ... سرنا بالقرب زالا
والقريب: هو الذي ينتقل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر لظهور وجهه.
والبعيد بخلافه, وقد سبق بيانهما في الفصل الرابع.
وأما تقسيمه باعتبار الغرض فهو: إما مقبول أو مردود, وقد مر بيان ذلك في الأحوال.
وأما (تقسيمه) باعتبار الأداة فهو: إما مؤكد أو مرسل.
فالمؤكد: ما حذفت أداته كقوله تعالى "وهي تمر مر السحاب".
وقول الحماسي:
هم البحور عطاء حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقاهم بهم
والمرسل: ما ذكرت أداته كقوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله تعالى "عرضها كعرض السماء والأرض" إلى غير ذلك.
واعلم أن المشبه قد ينتزع من نفس التضاد, لاشتراك الضدين فيه, ثم ينزل منزلة بواسطة تمليح أو تهكم, فيقال للجبان: ما أشبهه بالأسد, وللبخيل: هو حاتم.
ولنقتصر من الكلام على التشبيه على هذا المقدار, فقد طال بنا السرح وخرجنا عن شرط الاختصار, على أننا قد جاوزنا مخدراته في منصات الظهور, وأوردنا ما لا يسعى الأديب عن معرفته في المنظوم والمنثور, ولم نقتد بشراح البديعيات في طي الكلام على عزته في هذا الباب, فإن مقام التشبيه أشرف قدرا من أن يطوى عنه كشحا, ويضرب صفحا عند أولي الألباب.
ولنذكر الآن جملة من محاسن التشبيهات على جاري عادتنا في هذا الكتاب.
فمنها قول محمد بن عبد الله الكاتب:
كأن الثريا صدر باز محلق ... سما حيث لا يبدو له غير جؤجؤ
حكت طبقا فيروزجيا أديمه ... نثرن عليه سبع حبات لؤلؤ
وقول ابن المعتز: كأن الثريا في أواخر ليلها=تفتح نور أو لجام مفضفض وقوله:
وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدت من ثياب حداد
وقوله:
كأن الثريا فيه در تقاربت ... جمان وهي من سلكه فتبددا
وقول التهامي:
وللثريا ركود فوق أحلنا ... كأنها قطعة من فروة النمر
(وقال) آخر:
كأن الثريا والصباح يكدها ... قناديل رهبان دنت لخمود
وقول ابن هاني الأندلسي من قصيدة:
كأن رقيب النجم أجدل مرقب ... يقلب تحت الليل في ريشه طرفا
كأن بني نعش ونعشا مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا
كأن سهيلا في مطالع أفقه ... مفارق ألف لم يجد بعده ألفا
كأن سهاها عاشق بين عواد ... فآونة يبدو وأونة يخفى
كأن معلى قطبها فارس له ... لواءان مركوزان قد ذكره الزحفا
كأن قدامى النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسمو الخوافي به ضعفا
كأن أخاه حين دوم طائرا ... أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا
كأن الهزيع الآبنوسي لونه ... سرى بالنسيج الخسرواني ملتفا
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة=صريع مدام بات يشربها صرفا
كأن عمود الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى
كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني من قصيدة عارض بها قصيدة ابن هاني:
كأن الدجى لما تولت نجومه ... مدبر حرب قد هزمنا له صفا
أن عليه للمجرة روضة ... مفتحة الأنوار أو نثرة زغفا
كأنا وقد ألقى إلينا هلاله ... سلبناه جاما أوب قصمنا له وقفا
كان السها إنسان عين غريقة ... من الدمع يبدو كلما ذرفت ذرفا
كأن سهيلا فارس عاين الوغى ... ففر ولم يشهد طرادا ولا زحفا