مهفهف تستخف الراح راحته ... ويثقل السكر عطفيه فيرتنح
بدا يطوف بها حمراء ساطعة ... في جبهة الليل من لالائها وضح
فاطرح زنادك لا تستورده قبساً ... لا يقدح الزند من في كفه القدح
وافي بها أسرة في المجد راسية ... لا يستفزهم حزن ولا فرح
هم سمام العدى إن غارة عرضت ... وهم غمام الندى والفضل إن سمحوا
تخفي وجوههم الأقمار إن سفروا ... وتخجل السحب أيديهم إذا منحوا
مالوا إلى فرص اللذات من أمم ... ولم يميلوا عن العليا ولا جنحوا
فاستطرد من وصف الساقي والخمر إلى وصف ندمائه بالرجاحة والشجاعة والسماحة والصاحبة، ثم عاد إلى ما كان عليه من وصف الساقي فقال:
وبات يمنحني من دونهم منحا ... كانت أماني نفسي والهوى منح
وقلت بعده:
وذات حسن إذا ميطت براقعها ... فالشمس داهشة والبدر مفتضح
عاتبتها بعدما مال الحديث بها ... عتباً يمازحه من دلها ملح
فأعرضت ثم لانت بعد قسوتها ... حتى إذا لم يكن للوصل مطرح
أغضت وأرضت بما أهوى وعفتنا ... تأبى لنا مأثماً في الحب يجترح
فلم نزل لابسي ثوب العفاف إلى ... أن كاد يظهر في فرح الدجى جلح
قامت وقمت وفي أثوابنا أرج ... من الوصال وفي أكبادنا قرح
ما أصعب الحب في خطب وأبرحه ... بذي العفاف وإن أخفى الذي يضح
وأورد ابن حجة من شواهد الاستطراد قول حسان بن ثابت:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا رأس طمرة ولجسام
قال: فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحارث بن هشام. والحارث هذا هو أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، ومات يوم اليرموك بالشام. انتهى.
وأنا أقول: ليس هذا من الاستطراد في شيء، بل هو تخلص البتة، لأن الاستطراد يشترط فيه العود إلى الكلام الأولى كما تقدم، وحسان لم يعد إلى ما كان عليه من ذكر العاذلة، بل أتم القصيدة مستمراً على ذكر هزيمة الحارث بن هشام والإيقاع بقومه في يوم بدر. ولنذكر ما قبل البيتين مما يتعلق بهما، وما بعدهما إلى آخر القصيدة حتى يعلم صحة ما ذكرناه.
قال حسان:
يا من لعاذلة تلوم سفاحة ... ولقد عصيت على الهوى لوامي
بكرت علي بسحرة بعد الكرى ... وتقارب من حادث الأيام
زعمت بأن المرء يكرب عمره ... حدث لمعتكر من الأصرام
يقول: زعمت أن الرجل يقرب أجله الفقر، فأمرتني بالإمساك، والمعتكر المال الكثير، والأصرام جمع صرمة بكسر الصاد المهملة، وهي القطعة من الإبل، ما بين العشرين إلى الثلاثين، وقيل غير ذلك.
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
تذر العناجيج الجياد بقفزة ... مر الدموك بمحصد ورجام
العناجيج: جياد الخيل والإبل. قال شارح الديوان: أراد بالدموك البكرة وهي الخشبة المستديرة التي يستقي عليها، يريد أنها تسرع سرعان الكبرة. والمحصد: الحيل المحكم الفتل. والرجامان: قرنا البئر اللتان تكون بينهما البكرة.
ملأت به الفرجين فارمدت به=وثوى أحبته بشر مقام يريد ملأت به الفرس فرجيها، وهو ما بين رجليها عدوا. وأرمدت: أسرعت.
وبنو أبيه ورهطه في معرك ... نصر الإله به ذوي الإسلام
طحنتهم والله ينفذ أمره ... حرب يشب سعيرها بضرام
لولا الإله وجريها لتركنه ... جزر السباع ودسنه بحوامي
الحوامي: ميامن الحافر ومياسره.
من كل مأسور يشد صفاده ... صقر إذا لاقى الكتيبة حامي
ومجدل لا يستجيب لدعوة ... حتى تزول شوامخ الأعلام
ومرنح فيه الأسنة شرعا ... كالجفر غير مقابل الأعمام
الجفر: الجدي، والمقابل الذي أبوه وأمه من قبيلة واحدة، أو الكريم النسب من قبل أبويه.
من صلب خندف ماجد أعراقه ... بخلت به بيضاء ذات تمام
هذا آخر القصيدة فأين الاستطراد الذي ذكره ابن حجة؟ وقد قال هو: الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول، وقطع الكلام بعد المستطرد به.