وتنقسم باعتبار الجامع إلى عامية، وهي المبتذلة لظهور الجامع فيها، نحو رأيت أسداً يرمي، وخاصية وهي الغريبة التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة. والاستعارات الواردة في التنزيل كلها من هذا القبيل.
ومنه قول طفيل الغنوي:
وجعلت كوري فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل
وموضع اللطف والغرابة منه أنه استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام، مع أن الشحم يقتات.
ثم الغرابة قد تكون في نفس الشبه، بأن يكون نفس التشبيه غريباً كقول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرساً له، بأنه مؤدب، وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود:
عودته فيما أزور حبائبي ... إهماله وكذاك كل مخاطر
فإذا أحتبي قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر
شبه هيئة وقوع العنان في موقعه من قربوس السرج بهيئة وقوع الثوب في موقعه من ركبة المحتبي، فجاءت الاستعارة غريبة لغرابة الشبه.
وقد تحصل الغرابة بتصرف في الاستعارة العامة.
كقول كثير عزة وقيل غيره:
ولما قضينا من مني كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
استعار سيلان السيول الواقعة في الأباطح لسير الإبل يسراً حثيثاً في غاية السرعة المشتملة على لين وسلاسة، والتشبيه فيها ظاهر عامي لكنه تصرف فيه بما أفاده اللطف والغرابة حين أسند الفعل وهو (سالت) إلى الأباطح دون المطي أو أعناقها، حتى أفاد أن الأباطح امتلأت من الإبل. وأدخل الأعناق في السير، لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهر أن غالباً في الأعناق، ويتبين أمرهما في الهوادي، وسائر الأجزاء يستند إليها في الحركة، ويتبعها في الثقل والخفة.
ومثل هذه الاستعارة في الحسن وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير
أراد أنه مطاع في الحي، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول. تجيء من ههنا وههنا، وتنصب من هذا المسيل وذاك، حتى يغص بها الوادي ويطفح منها، وهذا التشبيه ظاهر معروف أيضاً، ولكن حسن التصرف فيه إفادة الغرابة بإسناد الفعل إلى الشعاب دون الأنصار أو الوجوه، حتى أفاد أن الشعاب امتلأت من الرجال، وكما أن إدخال الأعناق في السير، أكد الدقة والغرابة في الأول، أكدها هنا تعدية الفعل إلى ضمير الممدوح بعلى، لأنه يؤكد مقصوده من كونه مطاعاً.
وكذا في قوله:
فرعاء إن نهضت لحاجتها ... عجل القضيب وأبطأ الدعص
فإن تشبيه القوام بالقضيب، والردف بالدعص تشبيه عامي مبتذل، لكن وصفه الأول بالعجلة والثاني بالبطء أفاده غرابة ولطفاً.
وقد يكون وجه التشبيه في الاستعارة منتزعاً من عدة أمور فتسمى الاستعارة تمثيلية، والعلم في ذلك ما كتبه الوليد بن يزيد لما بويع بالخلافة إلى مروان بن محمد وقد بلغه أنه متوقف في بيعته له: أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا، فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فشبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلاً، وتارة لا يريده فيؤخر أخرى، فاستعمال الكلام الدال على هذه الصورة في تلك، ووجه الشبه وهو الإقدام تارة والإحجام تارة أخرى منتزع من عدة أمور كما ترى.
وإذا تحقق معنى الاستعارة حساً أو عقلاً، سميت تحقيقية، لتحقيق معناها في الحس أو العقل؛ فالأول كقوله: لدى أسد شاكي السلاح؛ فإن الأسد مستعار للرجل الشجاع، وهو أمر متحقق حساً، والثاني كقوله تعالى: (وأنزلنا إليكم نوراً) فإن النور مستعار للبيان الواضح، وهو أمر متحقق عقلاً.