للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، فيسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية، ومكنياً عنها، لأنه لم يصرح به بل دل عليه بذكر خواصه ولوازمه، ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به استعارة تخيلية، لأن قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه به أو قوامه في وجه التشبيه ليتخيل أن المشبه من جنس المشبه به.

ثم ذلك الأمر المختص بالمشبه به على ضربين، أحدهما ما لا يكمل وجه التشبيه في المشبه به بدونه، والثاني ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه.

فالأول كقول أبي ذؤيب الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع

شبه المنية في نفسه بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفاع ضرار، ولا رقة لمرحوم، ولا بقيا على ذي فضيلة، فأثبت لها الأظفار التي لا يكمل ذلك الاغتيال في السبع بدونها تحقيقاً للمبالغة في التشبيه، فتشبيه المنية بالسبع استعارة بالكناية وإثبات الأظفار للمنية، استعارة تخييلية.

والثاني كقول العتبي:

فلئن نطقت بشكر برك مفصحاً ... فلسان حالي بالشكاية أنطق

شبه الحال بإنسان متكلم بالدلالة على المقصود، وهذا هو الاستعارة بالكناية، ثم أثبت للحال اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان المتكلم وهذه الاستعارة التخييلية. وبينه وبين السكالي في ذلك نزاع لا يتسع المجال لبيانه، وكتبهما كافلة بذلك، فمن أراده فعليه بها.

واعلم أن الاستعارة تنقسم باعتبار آخر - غير اعتبار اللفظ والطرفين والجامع - إلى ثلاثة أقسام: مطلقة ومجردة ومرشحة.

فالمطلقة، هي ما لم تقرن بصفة ولا تفريع كلام مما يلائم المستعار أو المستعار منه نحو عندي أسد، والمراد بالصفة، الصفة المعنوية لا النعت.

والمجردة هي ما قرن بما يلائم المستعار كقول كثير:

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... علقت بضحكته رقاب المالِ

فإنه استعار الرداء للعطاء، لأنه يصون عرض صاحبه كما يصون الرداء ما يلقى عليه، ثم وصفه بالغمر الذي يلائم العطاء لا الرداء، فنظر إلى المستعار له تجريداً للاستعارة.

والمرشحة هي ما قرن بما يلايم المستعار منه كقوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم) فإنه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم قرنها بما يلائم الاشتراء من الربح والتجارة، فنظر إلى المستعار منه.

وقد يجتمع التجريد والترشيح كقول زهير:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم

فقوله: شاكي السلاح تجريد، لأنه قرن بما يلائم المستعار له أعني الرجل الشجاع. وقوله: مقذف إلى آخر البيت ترشيح، لأن هذه الصفة إنما تلائم المستعار منه، أعني الأسد الحقيقي.

والترشيح أبلغ من الإطلاق والتجريد، ومن جمع التجريد والترشيح لاشتماله على تحقيق المبالغة في التشبيه، لأن في الاستعارة مبالغة فيه، فترشيحها وتزيينها بما يلائم المستعار منه تحقيق لذلك وتقوية له، ومبنى الاستعارة على تناسي التشبيه وإدعاء أن المستعار له عين المستعار منه لا شيء مشبه به، حتى أنه يبنى على علو القدر ما يبنى على علو المكان.

كقول أبي تمام:

ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء

فإن استعار الصعود لعلو القدر ثم بنى عليه ما يبنى على علو المكان والارتقاء إلى السماء، فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصمم على إنكاره فيجعله صاعداً في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه.

وكقوله أيضاً:

خدم العلي فخدمنه وهي التي ... لا تخدم الأقوام ما لم تخدمِ

وإذا ارتقى من قلةٍ في سؤدد ... قالت له الأخرى بلغت تقدم

وقول ابن الرومي:

يا آل نوبخت لا عدمتكم ... ولا تبدلت بعدكم بدلا

إن صح علم النجوم فهو لكم ... حقاً إذا ما سواكم انتحلا

كم عالم فيكم وليس بأن ... قاس ولكمن بأن رقى فعلا

أعلاكم في السماء مجدكم ... فلستم تجهلون ما جهلا

شافهتم البدر في السؤال عن الأمر إلى أن بلغتم زحلا

ونحو ذلك ما وقع من التعجب في قول ابن العميد أو غيره:

<<  <   >  >>