فثم بعثرة قبور، وحصلت سريرة صدور، وجيء بكل نبي وصديق وشهيد (منطيق) ، وتوحد لفصل عند رب قدير بعبده خبير بصير. فكم من زفرة تضنيه، وحسرة تضنيه في موقف مهول عظيم، ومشهد جليل (جسيم ١٢) بين يدي ملك كريم، بكل صغيرة وكبيرة عليم. حينئذ يلجمه عرقه (ويخفره ١٣) قلقه عبرته غير مرحومة، وصرخته غير مسموعة، وحجته غير مقبولة (ونوول صحيفته، وتبين جريرته، ونطق كل عضو منه بسوء عمله ١٤) فشهدت عينه بنظره، ويده ببطشه، ورجله بخطوه، وجلده بمسه، وفرجه بلمسه، (ويهدده منكر ونكير، وكشف عنه بصره ١٥) ، فسلسل جيده، وغلت يده وسيق يسحب وحده، فورد جهنم بكرب شديد وظل يعذب في جحيم، وسقي شربة من حميم، تشوي وجهه، وتسلخ جلده، يضربه زبنيته بمقمح من حديد، يعود جلده كنضجه بعد كجلد جديد، يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم، ويستصرخ فيلبث حقبة بندم.
نعوذ برب قدير، من شر كل مصير، ونسأله عفو من رضى عنه، ومغفرة من قبل منه، فهو ولي مسألتي، ومنجح طلبتي، فمن زحزح عن تعذيب ربه سكن في جنته بقربه، وخلد في قصور مشيدة (ومكن من حور عين ١٨) وحفدة، وطيف عليه بكؤوس (وسكن خطيرة فردوس ١٩) ، وتقلب في نعيم، وسقي من تسنيم، وشرب من عين سلسبيل، ممزوجة بزنجبيل، مختومة بمسك وعبير (مستديم للحبور) ، مستشعر للسرور، يشرب من خمور في روض (مشرق) مغدق، ليس يصدع من شربه وليس ينزف. هذه مسالة من خشي ربه، وحذر نفسه، وتلك عقوبة من جحد مشيئة منشئه، وسولت له نفسه معصية مبدئه، وذلك قول فصل، وحكم عدل، خير قصص قص ووعظ، نص تنزيل من حكيم حميد، نزل به روح قدسي مبين، على قلب نبي مهتد مكين، صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة، عذت برب رحيم، من شر كل رجيم، فليتضرع متضرعكم، وليبتهل مبتهلكم (فسنستغفر رب كل مربوب لي ولكم) .
هذا آخر الخطبة المونقة لأمير المؤمنين علي عليه السلام. إنما آثرت إيرادها بجملتها مع تداولها وشهرتها، تبركا بها وبقائلها، وتيمنا بمأثور فضائلها.
وكان الصاحب إسماعيل بن عباد رحمه الله عمل قصيدة معراة من حروف الألف في مدح أهل البيت عليهم السلام تقع في سبعين بيتا أولها:
قد ظل يجرح صدري ... من ليس يعدوه فكري.
فتعجب الناس منها وتداولها الرواة، فاستمر على ذلك النهج، وعمل قصائد كل واحدة منها خالية من حرف من حروف الهجاء، بقيت عليه واحدة تكون معراة من حرف الواو، فانبرى لعملها صهره أب الحسن علي بن الحسين الهمذاني وقال قصيدة فريدة أخلاها من الواو، ومدح الصاحب في عرضها وأولها:
برق ذكرت به الحبائب ... لما بدا فالدمع يسكب.
أمدامعي منهلة ... هاتيك أم غزر السحائب.
نثرت لآليء أدمع ... لم تفترعها كف ثاقب.
يا ليلة أفنيتها ... بمضاجع فيها عقارب.
لما سرت ليلى تحث ... لنأيها عنا الركاب.
ظلت تجيل لحاظها ... كالسيف لم يخط المضارب.
للسحر في أرجائها ... مهما أرادتها ملاعب.
جعلت قسي سهامها ... أن ناضلته عقد حاجب.
لم يخط سهم أرسلت ... هـ إن سهم اللحظ صائب.
تسقيك ريقا سكره ... إن قسته للخمر غالب.
كم قد تشكى خصرها ... من ضعفها ثقل الحقائب.
كم أخجلت بضفائر ... أبدت لنا ظلم الغياهب.
أخجال كف الصاحب القرم المرجى للسحائب.
ملك تلألأ من معا ... قد عزه شرف المناصب.
نشأت سحائب رفده ... في الخلق تمطر في بالرغائب.
وهي طويلة تنيف على الستين [بيتا] .
والثاني هو حذف جميع البيوت المهملة.
كقول الحريري:
فتنتني فجننتني تجني ... بتفن يفتن غب تجني.
شغفتني بجفن ظبي غضيض ... غنج يقتضي تفيض جفني.
والقطعة مبينة على هذا مع صنعة أخرى، وهي أن حروفها كلها متصلة.