الأول كلمات السجاع مبنية على أن تكون ساكنة الإعجاز موقوفا عليها، لأن الغرض من السجع أن يزاوج بين الفواصل، ولا يتم في كل سورة إلا بالوقف وبالبناء على السكون، كقولهم: ما أبعد ما فات، وما أقرب ما هو آت. فإنه لو اعتبر الحركة لفات السجع، لأن التاء من (فات) مفتوحة، ومن (آت) مكسورة منونة، وهذا غير واف بالغرض من تزاوج الفواصل. وإذا رأيتهم يخرجون الكلم عن أوضاعها للازدواج فيقولون (آتيك بالغدايا والعشايا) يريدون: الغدوات، و (هناني الطعام وراني) يريدون: أمراني، و (انصرفن مأزورات غير مأجورات) أي موزورات، و (أخذ ما قدم وما حدث) بالفتح، مع أن فيه ارتكابا لما يخالف اللغة، فما ظنك بهم في ذلك؟.
الثاني: الجمهور على أنه لا يقال في التنزيل إسجاع، تحرزا على معناه الأصلي الذي هو هدير الحمام، بل يقال: فواصل، لقوله تعالى: (كتاب فصلت آياته) ، وقال الرماني: السجع عيب، والفواصل بلاغة. قال الخفاجي في سر الفصاحة: قوله هذا غلط، فإنه إن أراد بالسجيع ما يتبع المعنى وهو غير مقصود، فذلك بلاغة والفواصل مثله، وإن أراد ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف، فذلك عيب والفواصل مثله. قال: وأظن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا: رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غرض من التسمية قريب، والحقيقة ما قلناه.
قال: والتحرير أن الأسجاع: حروف متماثلة في مقاطع الفواصل. انتهى.
وذهب كثير من غير الأشاعرة إلى إثبات السجع في القرآن، وقالوا: أن ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة، كالجناس والالتفاف ونحوهما.
الثالث قال ابن النفيس: يكفي في حسن السجع ورود القرآن به، قال: ولا يقدح ذلك خلوه في بعض الآيات، لأن الحسن قد يقتضي المقام الانتقال إلى أحسن منه. وقال حازم: إنما نول القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب، فوردت الفواصل فيه بأزاء ورود الاسجاع جميعا أن يكونوا مستمرا على نمط واحد لما فيه من التكلف، ولما في الطبع من الملل، ولأن الافتتان في ضروب الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد، فلهذا وردت بعض آيات القرآن متماثلة المقاطع وبعضها غير متماثل. انتهى.
وإذ قد استوفينا الكلام على ما يتعلق بالسجع في هذا المقام، فلا بأس بإيراد شيء من الإنشاء البديع المشتمل على محاسن التسجيع.
فمن ذلك قول الصاحب بن عباد وكتبه إلى القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرجاني عند وروده باب الري وافدا عليه:
تحدثت الركاب بسير أروى ... إلى بلد حططت به خيامي.
فكدت أطير من شوق إليها ... بقادمة كقادمة الحمام.
أفحق ما قيل من أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان، وأنه ونيل المنى سيان، فمرحبا براحلتك ورحلك،) وأهلا بك وبجميع اهلك) ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك، فحث المطي تزل علتي بلقياك، وتبرد غلتي بسقياك، ونص على يوم الوصول نجعله عيدا مشرفا، وتتخذه موسما ومعرفا، ورد الغلام أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على نجاح نسر، وأن يترك الصبا في عقال أسر والسلام.
وقوله أيضاً في التهنئة ببنت: أهلا وسهلا بعقيلة النساء (وكريمة الآباء) وأم الأبناء، وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار، والمبشرة بأخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
فلو كان النساء كمثل هذي ... لفضلت النساء على الرجال.
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال.
فأدرع اغتباطا (وتهاتف نشاطا) فالدنيا مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زرينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة هي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والجنة مؤنثة وبها وعد المدقون، (وفيها ينعم المرسلون) ، فهنيئا مليئا ما أوليت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.
ومنه قول بديع الزمان الهمذاني: بيننا عذراء زجاجه خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة، إذا طاف بها الساقي فوردة على غصتها، أو شربها مقهقهة فحمامة على فننها.