وقوله أيضاً: انظر إلى الكلام وقائله، فإن كان وليلا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن. ألا ترى إلى العرب تقول: (قاتلة الله) ولا يريدون الذم، و (لا أبا له) في الأمر إذا تم.
وقوله أيضاً: فائدة الاعتقاد، أفضل من الانتقاد، والسماح يكسر الرماح، والصفح يفل الصفاح، والجود أنصر من الجنود، وكشف الضر عن الحر أجمل من كشف الصدف عن الدرب، من عرف بالمنح قصد بالمدح، وخير الأخوان من ليس بخوان، وده ميمون وغيبه مأمون، فهو يخالفك ويرافقك ولا يفارقك، ويوافقك ولا ينافقك. إذا حضرت حنا عليك، وإذا غبت حن عليك.
وقوله أيضاً: ما أشبه وعد الشيخ بالخلاف إلا بشجر الخلاف، خضرة في العين، ولا ثمرة في البين، فما ينفع الوعد، ولا إنجاز من بعد، ومثل والوعد مثل الرعد، ليس له خطر، إن لم يتله مطر.
وقوله أيضاً: كتابي من هراة ولا هراة، فقط طحنتها المحن كما يطحن الدقيق، وقلبتها كما يقلب الرقيق، وبلعتها كما يبلع الريق، وقد خدمت الشيخ سنين، والله لا يضيع أجر المحسنين، ونادمته والمنادمة رضاع ثان، ومالحته والممالحة نسب دان، وسافرت معه والسفر والأخوة رضيعا لبان، وقمت بين يديه والقيام والصلاة شريكا عنان، وأثنيت عليه والثناء من الله بمكان، وأخلصت له والإخلاص محمود بكل لسان.
وقوله أيضاً: للشيخ من الصدور ما ليس للفؤاد، ومن القلوب ما ليس للأولاد، كأنما اشتق من جميع الأكباد، وولد بجميع البلاد، سواء الحاضر فيه والباد، فكل أفعاله غرة في ناصية الأيام، وزهرة في جنح الظلام. ألا أن ما أوجبه لفلان روض أنا وسميه، وغصن أنا قمرية، وعود جمره لساني وجود شكره ضماني.
وقوله أيضاً: المرء جزوع لكنه حمول، والإنسان في النوائب شموس ثم ذلول. ولقد عشت بعد الشيخ عيشة الحوت في البر، وبقيت لكن بقاء الثلج في الحر.
وقوله أيضاً: كتابي إلى البحر وان لم أره، فقد سمعت خبره، الليث وان لم ألقه فقد تصورت خلقه، والملك وان لم أكن لقبته، فقد لقيني صيته، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره. وهذه الحضرة وان احتاج إليها المأمون، ولم يستغن عنها قارون، فان أحب إلى من الرجوع عنها بمال. قدمت التعريف، وأنا انتظر الجواب الشريف.
وقوله أيضاً: حضرته التي هي كعبة المحتاج، أن أم تكن كعبة الحاج، ومشعر الكرام، آن لم تكن مشعر الحرام، ومنى الضيف، أن لم تكن منى الخيف، وقبلة الصلات، أن أم تكن قبلة الصلاة.
وقوله أيضاً: حرس الله هذه الدنانير، ورزقنا منها الكثير، أنها لتفعل مالا تفعل التوراة ة الإنجيل، وتغني مالا يغني التنزيل والتأويل، وتصلح ما يصلح جبرئيل وميكائيل.
وقوله في بعض من عزل من ولاية جماله، ونقص بدر حسنه بعد كماله: هذا الذي تاه بحسن قده، وزها علينا بورد خده، قد نسخ آية حسنه وأقام مائل غصنه، وانتصر لنا منه بشعرات كسفت هلاله، وأكسفت باله، ومسخت جماله، وغيرت حاله.
فمن لك بالعين التي كنت مرة ... إليك بها في سالف الدهر أنظر.
أيام كنت تتلفت، فاقصر الآن، عما صار وكان، فانه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة أعرضت، وأيام انقضت، ويوم صار أمس، وحسرة بقيت في النفس. فختام تدل وإلام، وكم نحتمل وعلام.
قلت: لعمري هذا هو السجع الذي فاق سجع الحمائم على الغصون، وأربى بحسنه على ثمين الدر المصون، وهذا الإمام هو الذي صلى الحريري خلفه في مقاماته، وتتبع آثاره في منشآته وكلماته، وعناه بقوله: أن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف ألا من فضالته، ولا يسري ذلك المسري إلا بدلالته.
وما ألطف قول بعض العلماء: -وقد سئل عن الحريري والبديع في مقاماتها- لم يبلغ الحريري أن يسمى بديع يوم، فكيف يقارب بديع الزمان.
ومن بديع الإنشاء قول أبي بكر محمد بن أحمد اليوسفي: الشوق الذي أقاسي يصدع الجبل القاسي، والذي مر براسي يهد الجبل الراسي، من نواكب أوهت المناكب، وعوارض شيبت العوارض، ومحن عظام أثرت في العظام، وللأيام دول متعاقبة، وللصبر الجميل أحمد عاقبة.