وقوله في جواب كتاب بعثه العماد في ورق أحمر، فقطعت العرب الطريق على حامله وأخذوه: ووصل منها كتاب تأخر جوابه، لان العرب قطعوا طريقه، وعقوا عقيقه، ثم أعادوه وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره، ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، فقطف ورده من شوك أيديهم، وحيا حياة الذي جل عن واديهم، وحضر منه حاضر الفضل الذي ما كان الله ليعذبه بالغربة وأنت فيهم في بواديهم، وتشرف منه بعقيلة الأنس التي ما كان الله ليمتحنها بقتل واديهم، وسألته بأي ذنب قتلت، وأي شفاعة فيك قبلت، فقال عرفت الأعراب بضاعتها من الفصاحة، وتناجدت أهل نجد فكل صاح وإصباحه، وقالوا: هذه حقائقنا السحرية، وهذه حقائبنا السحرية، وهذه عتايدنا السرية محمولة، وهذه مواريث قيسنا وقسنا المأمولة. فقيل لهم: أن الفصاحة تنتقل عن الأنساب، وان العلم يناله فرسان فارس ولو كان في السحاب، فدعوا عنكم ثمرا علق بشجراته، اتركوا نهبا صيح في حجراته (وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقوله يذكر كتابا جاء في ورق أخضر: ولما في الحلة الخضراء، مخضرا بسريرته السراء، قلت: الله أكبر من كان خاطره غيثا روض، وفاض فأعشب فذهب وفضض، وما شككت أنى دخلت الجنة لما فاض من أنهارها، وأفيض من سندسها، أو طلعت إلى سماء الدنيا لما ملأ سمعي وعيني من شهبها وحرسها، ولا أنني قد جاءني رسالة الروض الأرج لما فغمني من نفيس نفسها، فقلت لصحيفته ما هذه اللبسة الغريبة والحلة العجيبة؟ والورقة التي هزت عطفي ورق الشبيبة؟ والريحانة التي لا يدعيها عذار حبيبه؟ فقالت: شققنا مرائر قوم به فنحن نسميه شق المرارة) .
وقوله أيضاً: ومن مستهل ذي الحجة ما أستهل من يده كتاب، ولا استقل من تلقاء جهته سحاب، ولعل قلمه في الميقات قد أحرم فلم يمس الطيب من أنفاسه، ومسح المداد عنه لتمام الإحرام بكشف رأسه، والآن فقد انقضت الأيام المعلومة، فهلا قضى عنا الأيام التي تمادت فيها شقوة العيون المحرومة.
وقوله أيضاً في القلم: وقد أثمر هذا القلم أكرم الثمر وهو يابس، وأبر جودا على أخضر المغارس، وأتى أكله كل حين ووقت، وطال وان كان القصير فقصر عنه كل نعت.
قلت: وعلى ذكر القلم فقد عن لي أن أورد هنا رسالة القلم لخاتمة المحققين، مولانا جلال الدين الدواني، لما اشتملت عليه من المعاني الغريبة، والأسجاع التي لا يعتري السامع في حسنها ريبة، وهي:(آن القلم وما يسطرون) أن هذه تذكرة لقوم يعقلون. يا من فاق من البراعة، سألتني عن وصف اليراعة، فاستمع لما يتلى عليك (ذلك من أنباء الغيث نوحيه إليك)(أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتتا من لدنك رحمة وهي لنا من أمرنا رشدا) انه فتى من أصحاب الكهف والرقيم نشر له ربه من رحمته وهيأ له مرفقا ورفع له بخط مستقيم. نبي بعث من سرة البطحاء، وأيد بفصاحة أبكمت مصاقع البلغاء. كليم خص بالطور، والكتاب المسطور، والرق المنشور، وسفير بليغ نذير، وقد جاءنا بالبينات والزبر والكتاب المنير. قد بلغ من ذروة الشرف منتهاه، ومن سنام المعالي أعلاه، ينمي في شجرة النسب إلى أول ما خلق الله. (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا اله ألا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين) يقول إذا برز من بطن النون وشرع في الزبور (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور. ألف يقارن نونا، وألف يؤلف به درا ُمكنونا، إذا شددت به أن، وان لنت به اطمأن. عالم من أهل الكتاب علا كعبه في الأحبار، مر على سائر الكتب السماوية من الصحف والأسفار. ذو القرنين يسير المغرب والمشرق في أقصر ساعة، استولى على الأقاليم كلها ومد فيها باعه. فصيح جزل الكلام، لكن لا ينفك كلامه عن الإلهام، وإشراقي في طرق التعلم والتعليم من المشائين بنميم.