للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل

البنين، وذلك أن البنين لا يسمون شيئاً تكون الحلواء من لوازمه.

وأقبح من هاتين الاستعارتين من قبح الألفاظ قول ابن المعتز:

(كل يوم يبول زب السحاب) .

وأحسن ما قيل في العذر عن بيت أبي تمام: قول المرزوقي: إنما ذكر ماء الملام لما قال بعده: ماء بكائي على طريقة المشاكلة.

وهذا محل إيراد شيء مما وقع من محاسن الاستعارة نثراً ونظماً.

أما النثر فمن محاسنه، قول الحسن بن وهب: شربت البارحة على وجه السماء وعقد الثريا ونطاق الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما عقلت حتى لحقني قميص الشمس.

وقول الصاحب بن عباد في استزارة: غداً يا سيدي ينحسر الصيام، ويطيب المدام، فلا بد من أن نقيم أسواق الإنس نافقة، وننشر أعلام السرور خافقة، فبالفتوة أنها قسم للظراف، تفرض حسن الإسعاف، لما بادرتنا ولو على جناح الرياح والسلام.

وقوله أيضاً رحمه الله في مثل ذلك: نحن يا سيدي، في مجلس غني إلا عنك، شاكر إلا منك، قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت خدود الورد، وتجعدت أصداغ البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وتفتقت فارات النارنج، ونطقت السنة العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس. وقام منادي الطرب، وطلعت كواكب الندمان، وامتدت سماء الند. فبحياتي عليك إلا ما حضرت، لنحصل بك في جنة الخلد، وتتصل الواسطة بالعقد.

وقول أبي نصر العتبي: هذا يوم قد رقت غلائل صحوه، وغنجت شمائل جوه، وضحكت ثغور رياضه، واضطربت زرد النسيم فوق حياضه وفاحت مجامر الأزهار، وانتثرت قلائد الأغصان، عن فرائد الأنوار؛ وقامت خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، ودارت أفلاك الراح بشموس الأقداح، وسيبنا العقل في مرج الجنون، وخلعنا العذار بأيدي المجون.

وقول الآخر: ولقد عرق بالندى جبين النسيم، وابتل جناح الهواء، وضربت خيمة الغمام، واغرورقت مقلة السماء، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق.

وما أحسن قول القاضي الفاضل معتذراً عن كتاب كتبه لبعض أصحابه ليلاً: كتبها المملوك وقد عمشت عين السراج، وشابت لمة الدواة، وكل خاطر السكين، وضاق صدر الورقة.

وقول علي بن ظافر: بت ليلة في منزل اعترفت له مشيدات القصور بالانخفاض والقصور، والبدر قد محا خضاب الظلماء، وجلاً محياه في زرقة قناع السماء، وكسى الجدران ثياباً من فضة، ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه، والروض قد ابتسم محياه، ووشت بأسرار محاسنه رياه، والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميلها، وغصبها مباسم نورها فقبلها، وعندنا مغن قد وقع على تفضيله الإجماع، وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع، إن بدا، فالشمس طالعة، أو شدا، فالورق ساجعة، تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه، وقابله فقلنا: البدر قابل عيوقه، وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب، ويستجيش عليه تلويح بارقة الموشى بالذهب، ويديم حرقته وسهده، ويبذل في الطاقة طاقته وجهده. فتارة يضمخه بخلوقه، وتارة يحليه بعقيقه، وآونة يكسوه أُواب شقيقه. فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصاح، واستيقظ نائم الصباح.

وما أحسن قول ابن زيدون يحكي أو اجتماعه بمعشوقته ولادة بنت المستكفي قال: كنت في أيام الشباب هائماً بغادة أرى الحياة متعلقة بقربها، ولا يزيدني امتناعها إلا اغتباطاً، فلما ساعد القضاء وآن اللقاء، كتبت إلي:

ترفب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل اكتم للسر

وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح ... وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر

ثم لما طوى النهار كافوره، ونشر الليل عبيره، أقبلت بقد كالقضيب في ردف كالثيب، وقد أطبقت نرجس المقل على ورد الخجل، فملنا روض مدبج، وظل سجسج، قد قامت رايات أشجاره، وامتدت سلاسل أنهاره، ودر الطل منشور، وجيب الراح مزرور. فلما شببنا نارها، وأدرت منا ثارها، باح كل منا بحبه، وشكا ما بقلبه، وبتنا بليلة نجتني أقحوان الثغور ونقطف رمان الصدور. فلما نشر الصباح لواءه، وطوى الليل ظلماءه، وأدعتها وأنشأت:

وادع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما أودعك

يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك

يا أخ البد سناء وسنا ... حفظ الله زماناً أطلعك

<<  <   >  >>